لمقامة الأولى: وتُعرَف بالصَّنْعانِية [1]
حدّثَ الحارثُ بنُ هَمّامٍ قالَ: لمّا اقتَعدْتُ غارِبَ الاغتِرابِ [2], وأنأتْنِي المَترَبَةُ عنِ الأتْرابِ, طوّحَتْ بي طَوائِحُ الزّمَنِ إلى صنْعاء اليَمَنِ, فدَخَلْتُها خاويَ الوِفاضِ [3], باديَ الإنْفاضِ, لا
[1] قوله: [الصَّنْعانِية...إلخ] نسبة إلى صنعاء على غير القياس, وهي تتضمّن أنّ أبا زيد كان واعظاً ثمّ عكف مع تلميذ على شرب النبيذ. ونسب الحريري هذه المقامة إلى صنعاء لوُقوع هذه القصّة التي هو بصدد ذكرها فيها, و"صنعاء" بلدة باليمن, وهي معمورة قديمة للغاية, بناها سام بن نوح عليه السلام. (المطرزي, المصباحي)
[2] قوله: [اقتَعدْتُ غارِبَ الاغتِرابِ...إلخ] أي: ركبتُ, وأصله اتّخذتُ قُعْدة أو قَعوداً, وهما اسمان للبعير يقعد عليه راكبه, و½الغارب¼ مقدّم سنام البعير, و½الاغتراب¼ و½الغُربة¼ التحوّل في البُلدان والبُعد عن الأوطان, و½أنأتني¼ أبعدتني, و½المتربة¼ الفقر والفاقة؛ لأنها تُلصِق صاحبَها بالتُراب, قال الله تعال: ﴿أَوۡ مِسۡكِينٗا ذَا مَتۡرَبَةٖ﴾ [البلد:١٦], أي: لاصق بالتراب, و½الأتراب¼ الأصحاب على سنّ واحد, و½طوّحت¼ أي: رمت وقذفت, وهو جواب ½لمّا¼, و½طوائح¼ المصائب والنوائب, والقياس ½المطاوح¼؛ لأنّك تقول: ½طوِّحت¼ فهي ½مطوّحة¼ والجمع مطوّحات ومطاوح, قال أبو عبيد: جاءت الطوائح على حذف الزيادة وردّ الفعل إلى أصله, فإنه من ½طاحت¼ فهي طائحة, والجمع طوائح, و½صنعاء اليمن¼ صنعاء مدينة كبيرة, وأضافها إلى اليمن؛ لأنّ ثَمّ صنعاء أخرى وهي قرية بالشام, وكان اسم صنعاء في القديم ½أزال¼, فلمّا وافتْها الحبشة قالوا: ½نعم نعم¼ فسُمي جبلُها "نعم" أي انظر, فلمّا نظروا إلى مدينتها ورأوها حصينة مبنيّة بالحجارة فقالوا: ½هذه صنعة¼ أي: حصينة, فسمّيت صنعاء, يقول: لمّا ركبتُ ظهر الغُربة وأبعدني الفقرُ والمسكنةُ عن الأصحاب, ورمتْني مُهلِكات الزَّمَن إلى بلدة باليمن معروفة بصنعاء. (الشريشي, المصباحي)
[3] قوله: [فدَخَلْتُها خاويَ الوِفاضِ...إلخ] ½خاوي الوفاض¼ حال من ضمير المتكلّم في ½دخلتُ¼, ½الخاوي¼ الخالي, و½الوِفاض¼ جمع وَفضَة, وهي خريطة من أدم تشبه الجِراب, تتخذها الرُّعاء وأشباههم للزاد, و½بادي الإنفاض¼ أي: ظاهر الفقر, أيضاً حال من الضمير في ½دخلتُ¼, يقال: ½أنفض القوم¼ إذا فني زادهم ونفد طعامهم, و½نفض القوم¼ إذا هلكت أموالهم, وأصله من النفض, والمسافر إذا نفد زاده نفض جرابه طمعا في أن يتساقط فتات, فكأنّ الفقر ألجاه إلى النفض, و½البُلغة¼ زاد للمسافر يبلغ به من يومه إلى غده, و½الجِراب¼ وِعاء من جلد يصنع للزاد, و½مضغة¼ لقمة, يقول: دخلتُ صنعاء اليمن خال خريطة الزاد وظاهرَ الفَقر والاحتِياج, ولا معي زاد إلى الغداء ولا في جِرابي لقمة للغذاء. (مغاني, الشريشي)