عنوان الكتاب: المقامات الحريرية

المُخْبِرُ بهَذِهِ الحِكايَةِ: فلمّا رأيتُ تلهُّبَ جَذْوَتِهِ [1], وتألُّقَ جلْوَتِهِ, أمعَنْتُ النّظَرَ في توسُّمِهِ [2], وسرّحْتُ الطّرْفَ في ميسَمِهِ, فإذا هوَ شيخُنا السَّروجِيّ, وقدْ أقْمَرَ ليلُه الدَّجُوجيُّ [3], فهنّأتُ نَفسِي بمَورِدِهِ, وابتدَرْتُ اسْتِلامَ يدِهِ, وقلتُ لهُ: ما الذي أحالَ صِفَتَكَ [4] حَتّى جَهِلْتُ معرِفَتَكَ؟ وأيُّ شيء شيّبَ لِحيَتَكَ حتى أنْكَرْتُ حِليَتَكَ؟ فأنشأ يقول:

وقْـعُ الـشّـوائِـبِ شـيّـبْ

 

والـدّهـرُ بـالـنـاسِ قُلَّبْ [5]


 

 



[1] قوله: [تلهُّبَ جذْوَتِهِ...إلخ] ½التلهب¼ اشتعال النار إذا خَلُص من الدخان, و½الجذوة¼ هي الجمرة الملتهبة, وأراد بها حدّةَ ذهنه وذكاءَه وحُسنَ بديهته, و½تألق البرق¼ أي: لمع وأضاء, و½جلوته¼ ما جلاه وكشفه مِن وجهه, وأراد بـ½تألق جلوته¼ بريق وجهه وحسن حاله وظهور مرتبته وكماله. (مغاني, الشريشي)

[2] قوله: [أمعَنْتُ النّظَرَ...إلخ] ½أمعنت¼ أي: بالغت وأدمت, ½في توسمه¼ أي: طلب سِماته وعلاماته؛ إذ أصل التوسم طلب الشيء بالوَسْم والعلامة, ½سرحت الطرف¼ أرسلته, وهو مِن ½سَرَح إبلَه¼ إذا أخرجها إلى المرعى, والمراد أرسلت العين بالنظر, وأراد به المبالغة في النظر, ½في مِيسَمه¼ أثر الجمال من الوَسامة, يقال: ½رجل وسيم¼ أي: جميل, و½الميسم¼ أيضاً العلامة. (مغاني, الجوهرية)

[3] قوله: [أقْمَرَ ليلُه الدّجُوجيُّ...إلخ] ½أقمر الليل¼ أي: أضاء وصار ذا قمر, يقال: ½ليل دجوجي¼ شديد السواد والظلمة, أي: صار في سواد شعره بَياضُ شيبٍ فكان بمنزلة القمر في الليل, وهو من باب الاستعارة المُرَشَّحة, و½هنّأت نفسي¼ أي: قلتُ لها هنيأ لك, ½بمورده¼ أي: بقدومه وإتيانه؛  و½ابتدرت¼ أسرعت, و½استلام يده¼ تقبيلها, لأنه قدّم أنه غاب عنه مدّة لا يعرف له موضعاً ولا يجد عنه مخبراً؛ حيث قال: ½واستتر عنّي حيناً¼ فلمّا رآه ببلده بالبصرة فرح بقدومه وهنّأ نفسه على ذلك.  (مغاني, الشريشي)

[4] قوله: [أحالَ صِفَتَكَ...إلخ] ½أحال¼ أي: غيّره ونقله من حال إلى حال, و½حال الشيء¼ إذا تغيّر وتحوّل, و½حليتك¼ صفتك, ولذلك احتاج أنْ يمعن النظر لما تغيّرت صفاته التي كان يعرفه بها من الفُتُوَّة والشبيبة, فلمّا رآه قد شابَ شَعَره وتغيّرت صِفاته لَم يعرفه إلاّ بعد طول تأمّل. (الشريشي)

[5] قوله: [وقْعُ الشّوائِبِ شيّبْ...إلخ] ½الشوائب¼ أصله ما يقع في الماء الصافي من الأقذاء فيكدّره, فأراد أنّ أنكاد الدهر شيّبتْه, و½الدهر¼ أي: الزمان, و½قُلّب¼ صيغة مبالغة, أي: كثير التقلّب, فيحوّل من حال إلى حال, يعني: وقوع الحوادث المختلطة شيّب رأسي والدهر لا يترك الناس على حالة واحدة بل يقلّبهم منها إلى أخرى, وتفسيره في البيت الثاني. وإسناد التصرّف في الأشياء إلى الدهر من المؤمن إسناد مجازي, ويسمى مجازاً عقلياً, وهو نسبة الأمر إلى غير مَن هو له. (الشريشي, الجوهرية)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

132