عنوان الكتاب: المقامات الحريرية

هذا معَ اعْتِرافيْ [1] بأنّ البَديعَ رحِمَهُ اللهُ سَبّاقُ غاياتٍ وصاحِبُ آياتٍ, وأنّ المتصَدّيَ بعدَهُ لإنْشاء مَقامةٍ, ولوْ أُوتيَ بَلاغَةَ قُدامَةَ, لا يغْترِفُ إلاّ من فُضالَتِه [2], ولا يسْري ذلِك المَسْرى


 



[1] قوله: [هذا معَ اعْتِرافيْ...إلخ] مبتدأ وخبره محذوف, تقديره: ½هذا حالي¼, إشارة إلى ما أدرج في مقاماته من المحاسن, و½الغاية¼ مدّ الشيء, وجمعها ½غايات¼, ومنه يقال: لمنتهى موضع السباق ½غاية¼, و½السبّاق¼ الذي يجيء أبداً سابقاً, و½آيات¼ عَجائب وعلامات, و½المتصدّى¼ المتعرّض, وهو اسم ½إنّ¼ وخبرها ½لا يغترف إلخ¼, و½بلاغة¼ فصاحة, وأصلها أنْ يبلغ الإنسان من الكلام والحجّة ما أراد, و½قدامة¼ هو أبو الفرج قدامة بن جعفر, الكاتب البغدادي, كان بليغاً مجيداً عالماً بأسرار صنعة الكتابة ولوازمها, وله كتاب يعرف بـ"سرّ البلاغة" في الكتابة, وله تحقيق في صنع البديع يتميّز به عن نُظَرائه, وتدقيق في كلام العرب يُربي فيه على أكفائه, وتحذيق في علوم التعليم أضرم فيها شعلة ذكائه؛ فلذلك يُضرَب به المثل في البلاغة, واتّفق المتقدّم والمتأخر على فضل براعته. ومن مؤلفاته: "سرّ البلاغة" و"الخراج" و"نقد الشعر" و"نقد النثر". (الشريشي, الرازي, المصباحي)

[2] قوله: [لا يغْترِفُ إلاّ من فُضالَتِه...إلخ] أي: يقتبس, وأصل الاغتراف أخذ الماء باليد, و½الفضالة¼ ما فضل من الشيء, و½الفَعالة¼ تكون وصفاً لما هو خلقة في الإنسان وطبيعة فيه, كالخصافة والجهالة والرزانة وغيرها,و½الفِعالة¼ تكون للصّناعة, كالزِّراعة والحراثة والعمارة, و½الفُعالة¼ -بضمّ الفاء- تكون للزوائد لما يُرمَى به, كالقُلامَة والنُّخامة والبُراية, و½لا يسْري ذلِك المَسْرى¼ أي: لا يقصد ذلك المقصد, و½دلالته¼ تقدّمه وهدايته, وتُفتَح دالها وتُكسَر, والفتح أكثر, يقول: الذي يريدُ إنشاء المقامات فهو محتاج إلى أن يقتبس من منهج بديع الزمان وأسلوبه ولو كان في النهاية من الفصاحة والبلاغة. أقرّ الحريريُّ هنا للبَديع بالفضل وجعله سبّاقاً للغايات, وما أحسن هذا الأدب منه مع عِلمه بفضل مقاماته على مقامات البديع, ومِن أدلّ الدليل على ذلك أنه منذ ظهرت "مقامات الحريري" لم تستعمل "مقامات البديع", ثمّ إنه طبّق استعمالها آفاق الأرض إلاّ أنه أسرّ هنا شيئاً؛ لأنه ختم كلامه بأنّ البديع فضله بالتّقدّم, وهذا منه مذهب مستحسَن, ألا تراه كيف بدأ بتجريد الفضل للبديع وحدَه, ثمّ لم ير لنفسه قدراً في قوله: ½وإن لم يدرك الظّالعُ شأوَ الضليع¼, فجعل نفسه كالفرس الأعرج الذي جريُه إذا اجتهد دون مشي الصحيح, وجعل البديعَ كالفرس العتيق الكامل القوّة, ثم لمّا بلغ إلى هذا الموضع بعد أسطار صرّح في الظاهر للسامع بأنّ البديع سبّاق غايات وصاحب آيات, وأومى لمن فطن أنه إنما فضله بتقدّم الزمان. (مغاني, الشريشي)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

132