عنوان الكتاب: المقامات الحريرية

فانْسابَ فيها على غَرارَةٍ, فأمْهَلْتُه ريثَما خلَعَ نعْلَيْهِ [1], وغسَل رِجلَيْهِ, ثمّ هجَمْتُ علَيهِ [2], فوجدتُهُ مُحاذِياً لتِلْميذٍ على خبْزِ سَميذٍ وجَدْيٍ حَنيذٍ, وقُبالَتَهُما خابيةُ نبيذٍ, فقلتُ لهُ: يا هذا! أ يَكونُ ذاكَ خبرَكَ [3] وهذا مَخْبَرَكَ؟ فزَفَرَ زفْرَةَ القَيْظِ [4], وكادَ يتميّزُ منَ الغيْظِ,    


 



[1] قوله: [فأمْهَلْتُه ريثَما خلَعَ نعْلَيْهِ...إلخ] أي: قدر خَلْعِهما أو ساعتَه, و½الريث¼ في الأصل مصدر راث يَرِيث بمعنى أبطأ, إلاّ أنهم أجروه ظرفاً كما أجروا مَقْدَم الحاجِّ وخُفوق النجم, وهذا المصدر خاصة لمّا أضيفت إلى الفعل في كلامهم صار مثل الحين والساعة ونحوهما من أسماء الزمان, و½ما¼ زائدةٌ فيه بدليل صحّة المعنى بدونها, وأكثر ما يستعمل مستثنى في كلام منفي, وحقّ ½ما¼ أن تكتب موصولة بـ½ريث¼ لضعفها من حيث الزيادة وكونها غير مستقلّة بنفسها, ويجوز أن يكون ½ريث¼ في قولهم: ½ما وقفتُ عنده إلاّ ريثما قال ذاك¼ وقوله: ½إلاّ ريثما أتحوّل¼ ونحوه متروكاً على الأصل وتكون ½ما¼ فيه مصدريةً. (المطرّزي)

[2] قوله: [ثمّ هجَمْتُ علَيهِ...إلخ] و½هجم عليه¼ إذا دخل عليه بغتة بغير إذن, و½محاذيا له¼ أي: ملاصقاً أو جالسا بحذائه, ورأيتُ بخطّ الحريري: ½مجاذبا¼ بالجيم والباء أي: نازعه إياه, و½التلميذ¼ جمعه التلاميذ وهم الخَدَم والأتباع, و½سميذ¼ يعني الحُوّارَى, الدقيق الأبيض, وهو لباب الدقيق, و½جدي¼ الذَكَر مِن أولاد المعز, و½الحنيذ¼ المشوي في التنور, قال الله تعالى: ﴿جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ[هود:٦٩], يقال: ½حنذ الشاة¼ أي: شواها وجعل فوقها حجارةً مُحْماةً لتنضجها, و½قبالتهما¼ أي: أمامَهما, و½قُبالة الطريق¼ ما استقبلك منه, و½نبيذ¼ أراد به خمراً. (مغاني, تاج العروس)

[3] قوله: [أ يَكونُ ذاكَ خبرَكَ...إلخ] فيه إشارة إلى وعظه في أوّل المقامة بقوله: ½أيها السادر في غلوائه¼, و½الخبر¼ النَبأ, و½المخبر¼ ضدّ المنظَر وهو مدلول الخبر فهما بمنزلة الصورة والمعنى, وقيل: هو التجربة وعلمك بالشيء, يقول: أ يكون ذلك النصح الناجع والوعظ النافع مِن غُرَر كلامك ودُرَر نظامك ثم بقلّة المبالاة تكثَّرتَ تعاطي المحظورات من شرب الخمور والتظاهر بالفجور في منادمة المُردان ومغازلة الغزلان؛ مِن هِمَمك الدنية الفظيعة وشِيَمك الردية الشنيعة, وإنما قال ذلك منكِراً عليه؛ لأنّ فجور العلماء أقبح في العيون وأقرح للقلوب من فسوق الجهلاء. قال الله تعالى: ﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ [٢] كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ[الصف:٢-٣]. (مغاني)

[4] قوله: [فزَفَرَ زفْرَةَ القَيْظِ...إلخ] و½الزفرة¼ تنفّس المهموم أو المغتاظ, و½القيظ¼ شدّةُ حرارة الصيف, أي: ردّد نفسَه من شدّة الغيظ, شبّه ما أبداه من شدّة الغيظ بوهَج الحرّ, و½كاد¼ وضعت لمقاربة الفعل, ولهذا قالوا: كاد النعام يطير؛ لوجود جزء من الطيران, والفصحاء لا يذكرون معها ½أن¼ يعني لا يقولون: كاد النعام أن يطير؛ لأنّ ½أن¼ تدُلّ على تراخي الفعل ووقوعِه في الزمان المستقبل فإذا وقعت بعد ½كاد¼ نافت معناها الدال على اقتراب الفعل وحصل في الكلام ضرب من التناقض, و½يتميّز¼ أي: يتقطّع ويتفرّق, قال الله تعالى: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۖ[الملك:٨], و½الغيظ¼ أوّل الغضب, وقيل: هو أشد من الغضب, وقيل: هو غضب كامن للعاجز, ومنه قوله تعالى: ﴿ عَضُّواْ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۚ[آل عمران:١١٩], يعني: ردّد نفسه من شدّة الغيظ والهمّ وهاجت نارُ غضبه كما تهيجُ حرارةُ أقوى الصيف وكاد يتقطع من الغيظ. (مغاني, الشريشي)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

132