واسْتقَلْتُ مِن هذا المَقامِ [1] الذي فيهِ يَحارُ الفَهْمُ, ويفرُطُ الوهْمُ, ويُسْبَرُ غوْرُ العقْلِ [2], وتَبِيْنُ قِيمَةُ المَرْء في الفضْلِ, ويُضْطَرّ صاحِبُه إلى أن يكونَ كحَاطِبِ لَيْلٍ [3], أو جالِبِ رَجْلٍ وخَيْلٍ,
[1] قوله: [اسْتقَلْتُ مِنْ هذا المَقامِ...إلخ] أي: طلبت الإقالة وفسخ ما عزم عليه من تكليفه إيّاي ما لا أطيق, وأصله مِن إقالة البيع وهي فسخه, و½المقام¼ موضع القيام, و½حار وتحيّر¼ إذا لم يتَّجه لشيء, و½الفهم¼ معرفتك الشيءَ بالقلب, و½فرط في الأمر¼ -بالتخفيف والتشديد- أي: قصّر فيه وضيّعه حتّى فات, قال الله تعالى: ﴿يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ﴾ [الزمر:٥٦], أي: قصرتُ في أمر الله وطاعته, وقيل: سبق فيه إلى غير الصواب, وكلاهما محتمل لغةً, و½فرط عليه¼ عجل وبادر, ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ عَلَيۡنَآ﴾ [طه:٤٥], أي: يعجل بعقوبتنا, و½الوهم¼ ذهاب القلب إلى الشيء. (مغاني, الرازي)
[2] قوله: [يُسْبَرُ غَورُ العَقْل...إلخ] يُختَبر قدرُه ومنتهاه, وأصله في الجراحات يُختبَر غورها, أي: بُعد قعرها, و½السبر¼ القياس وأخذ عمق الجرح, يقال: ½سبرت الجرح¼ إذا أخذت عمقه بالمِسبار, و½المِسبار¼ الحديدة التي يقاس بها مقدار غَور الجراحة, يفعل ذلك الطبيب للقصاص أو للدواء, ثمّ سمّي كل اختبار ½سبرا¼, و½تبين¼ أي: تتبيّن, و½تبِين قيمة المرء¼ أي: يظهر ما يحسنه المرء ويعلمه, يعني: أنّ تصنيفه يدلّ على مقدار عقله وعلمه, وقد روي عن علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه أنه قال: ½قيمة كل امرئ ما يحسنه¼. (مغاني, الشريشي)
[3] قوله: [يُضْطَرّ صاحِبُه إلى أن يكونَ كحَاطِبِ لَيْلٍ...إلخ] أي: يُلجأ إلى أن يكون كحاطب ليل, و½حاطب ليل¼ جامع الحطب بالظلام, هذا من قول أكثم بن صيفي: ½المكثار كحاطب ليل¼ قال أبو عبيد في "الأمثال": إنما شبّهه بـ½حاطب الليل¼ لأنه ربما نَهَشَـتْه الحيّةُ أو لَسَعَتْه العَقربُ في احتطابه ليلاً, فكذلك المكثار ربما يتكلّم بما فيه هلاكه, وقيل: لأنَّ حاطب الليل لا يرى ما يجمعه فيخلط بين الجيد والردي, فكذلك المِكْثار يأتي بالضعيف من الكلام والقوي والجيد والردي, يضرب على الوجهين للمخلِط في كلامه وللجاني على نفسه بلسانه, و½الرَجل¼ الرجالة, وهو جمع راجل, مثل صاحب وصحب, و½خيل¼ أي: فُرسان, ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ﴾ [الإسراء:٦٤], إنّ خيل الشيطان كلّ خيل تسعى في معصية الله وإنّ رجلَه كلّ ماشٍ في معصية الله, ومعنى الآية: أجمع عليهم ما قدرتَ من جندك ومكائدك, وأراد بـ½جالب رجل وخيل¼ الضعيف من الكلام والقوي؛ لأنّ ½الراجل¼ ضعيف و½الفارس¼ قوي, معناه: أنّ من يصنّف كمن يجمع جيشا للحرب فلا بد أنْ يكون فيه القويّ والضعيف كمن يحطب بالليل لا بد أنْ يجمع الجيد والرديّ. (المطرزي, الشريشي, مغاني)