عن عمَد والكذب لا عن عمَد, ولو سُلّم[1] أنّ الافتراء بمعنى الكذب فالمعنى: أقصد الافتراء أي: الكذب أم لم يقصد بل كذب بلا قصدٍ لما به من الجنة, فإن قلتَ[2] الافتراء هو الكذب مطلقاً والتقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل, فالأولى أنّ المعنى:[3] افترى أم لم يفتر بل به جِنّة, وكلام المجنون ليس بخبر لأنه لا قصد له يعتدّ به ولا شعور, فيكون مرادهم حصره في كونه خبراً كاذباً أو ليس بخبر فلا يثبت خبر لا يكون صادقاً ولا كاذباً, قلتُ: كفى دليلاً في التقييد[4] نقل أئمّة اللغة واستعمال العرب,......................................
[1] قوله: [ولو سُلِّم إلخ] جواب آخر عن استدلال الجاحظ بالآية, كان مبنى الجواب الأوّل على أنّ القصد معتبر في مفهوم الافتراء, ومبنى هذا على أنه ليس معتبراً فيه, وحاصله أنه لو سُلِّم أنّ القصد ليس معتبراً في مفهوم الافتراء وأنّ الافتراء هو مطلق الكذب فالمراد ههنا هو قصد الافتراء بناءً على أنّ الأفعال الاختياريّة إذا نسبت إلى ذوي الإرادة يتبادر منها صدورها عن قصد وإرادة وإن لم يكن القصد داخلاً في مفهوم الافتراء وأمّا المجنون فليس له قصد يعتدّ به فكان المعنى: أ قصد الافتراء أي: الكذب أم لم يقصد الافتراء أي: الكذب بل كذب بلا قصد لما به من الجِنّة, فلا يثبت الواسطة.
[2] قوله: [فإن قلتَ إلخ] فيه إشارةٌ إلى جواب آخر أجاب به بعض الشرّاح عن استدلال الجاحظ بالآية, وإيرادٌ على الجوابين الأوّلين, ومقصود السائل الاستفسار عن علّة تخصيص الافتراء بالعمَد بإدخال العمد في مفهومه كما في الجواب الأوّل أو باستفادته بمعونة القرائن كما في الجواب الثاني مع أنّ هذا التخصيص خلاف اللغة والأصل. قوله الافتراء هو الكذب مطلقاً إيرادٌ على الجواب الأوّل الذي اعتبر فيه العمد في مفهوم الافتراء. قوله والتقييد خلاف الأصل إيرادٌ على الثاني الذي قُيِّد فيه الافتراء بالقصد.
[3] قوله: [فالأولى أنّ المعنى: إلخ] هذا إشارة إلى جواب آخر عن استدلال الجاحظ, حاصله أنه إذا كان الجوابان الأوّلان غيرَ مرضيَّين لكونهما خلاف اللغة والأصل فالأولى أن يقال في الجواب: إنّ معنى قولهم: أفترى على الله كذباً أم به جِنّة: أفترى أم لم يفتر بل به جِنّة, وكلام المجنون ليس بخبر أصلاً فمرادهم حصر خبر النبيّ عليه الصلاة والسلام في كونه خبراً كاذباً أو ليس بخبر رأساً, فلا يثبت الواسطة.
[4] قوله: [قلت: كفى دليلاً في التقييد إلخ] لمّا كان السؤال مشتملاً على الإيرادَين أجاب الشارح أوّلاً عنهما بهذا القول, وحاصل الجواب أنّ نقلَ أئمّة اللغة واستعمالَ العرب شاهد عدل على تقييد الكذب بالعمد في مفهوم الافتراء سواء كان العمد داخلاً في مفهوم الافتراء أو مستفاداً بمعونة القرائن, وذلك لأنهم يطلقون الافتراء في موارد ويعتبرون فيها انضمام القصد إليه.