رأيتُ توفّرَ رغبات المحصّلين على تعلّمِ هذا الكتاب وتحصيلِه, وامتدادَ أعناقهم نحوَ الإحاطة بجُمَله وتفاصيله, وأكثرهم قد حرموا[1] توفيق الاهتداء إلى ما فيه من مطويّات الرموز والأسرار, إذ لم يقع[2] له شرح يكشف عن وجوه خرائده الأستار, ترى بعض متعاطيه[3] قد اكتفوا بما فهموه من ظاهر المقال, من غير أن يكون لهم اطّلاع على حقيقة الحال, وبعضهم قد تصدَّوا لسُلوك طرائقه[4] من غير دليل, فأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل, اختلستُ[5] من أثناء التحصيل فُرَصاً, مع ما أتجرّع من الزمان غُصَصاً,
[1] قوله: [وأكثرهم قد حرموا] أي: منعوا, والتوفيق جعل الأسباب موافقة للمطلوب الخير. قوله من مطويّات الرموز بيان لـما, والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي: من الرموز المطويّات, ولا يخفى ما فيه من المبالغة في الخَفاء. قوله والأسرار عطف تفسير.
[2] قوله: [إذ لم يقع إلخ] علّة لقوله قد حرموا إلخ, والمقصود بالنفي هو القيد أي: وإن وقع له شروح لكن لم يقع له شرح يكشف إلخ. قوله عن وجوه إلخ شبّه لطائف المتن بالخرائد أي: بالعَذارَى, فذكر الخرائد استعارة مصرّحة وإثبات الوجوه لها استعارة تخييليّة وذكر الأستار استعارة مرشَّحة.
[3] قوله: [ترى بعض متعاطيه إلخ] أي: بعض آخذيه, هذا استيناف بيانيّ كأنه قيل كيف حرموا توفيق الاهتداء إلى رموز الكتاب. قوله قد اكتفوا جمع الفعل المسند إلى ضمير بعض ميلاً إلى المعنى كما في قوله تعالى: ﴿كُلّٞ فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ﴾ [الأنبياء:٣٣].
[4] قوله: [لسلوك طرائقه إلخ] الطرائق جمع طريقة بمعنى المذهب والمراد به ألفاظ الكتاب وعباراته, فقد شبّه ألفاظَه بالطرق والمحصِّلين بالسالكين والشرحَ الكاشفَ عن اللطائف بالدليل. قوله فأضلّوا كثيراً وضلّوا إلخ فيه أنّ الضلال مقدّم على الإضلال وجوداً فكان ينبغي تقديمه عليه ذكراً ليوافق الوضع الطبع, والجواب أنه اقتباس من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوٓاْ أَهۡوَآءَ قَوۡمٖ قَدۡ ضَلُّواْ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرٗا وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ﴾ [المائدة:٧٧] وفيه رعاية السجع مع قوله دليل.
[5] قوله: [اختلست إلخ] أي: أذهبت إلخ جواب لمّا. قوله فُرَصاً جمع فرصة وهي حصّة من الزمان يقتدر الإنسان فيها على تحصيل المقصود. قوله مع ما أتجرّع ما فيه مصدريّة, والتجرّع الشرب شيئاً فشيئاًً. قوله غُصَصاً جمع الغصّة وهي كلّ شيء يتوقّف في الحلق ولا ينحدر, والغصصُ هنا كناية عن الحوادث وتجرُّعُها كناية عن تحمّلها أي: مع تحمّلي حوادث الزمان.