لم تتكلّم من أمّ أَوْفَى ولم يبقَ من حزبها إلاّ قوم ببَلْدَحَ عَجْفَى: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ[1] بَيْنَ الْحَجُوْنِ إِلَى الصَّفَا * أَنِيْسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرٌ فطرحتُ الأوراق في زوايا الهجران[2], ونسجتْ عليها عناكب النسيان, وضربتُ بيني وبينها حجاباً مستوراً, وجعلتُها كأنْ لم يكن شيئاً مذكوراً, وإلى الله المُشتكَى[3] من دهر إذا أساء أصرّ على إساءته, وإن أحسن ندِم عليه من ساعته, ثُمّ ألجأني[4] فرط الملال وضيق البال إلى أن تلفظني أرض إلى أرض
[1] قوله: [كَأَنْ لَمْ يَكُنْ إلخ] البيت لعمرو بن الحارث قاله تحزّناً بعد ما نُفِيَ مع عشيرته من مكّة شرّفها الله إلى اليمن, والحَجون جبل بأسفل مكّة, والصفا في الأصل الحجر الصاب وروي أنّ آدم صفيّ الله على نبيِّنا وعليه الصلاة والسلام نزل عليه فاشتقّ اسمه من اسمه, والأنيس المونس, والسمر محركة الحديث في الليل, يقول دخلت أماكن الحَجون منتهيةً إلى الصفا كأن لم يكن بينها ما يونس به ولم يتحدّث فيها بالليل متحدِّث, وكان من عادة العرب الحديث بالليل.
[2] قوله: [زوايا الهجران] الإضافة من قبيل لجين الماء, وكذا في قوله عناكب النسيان. قوله حجاباً مستوراً من قبيل سَيل مُفعَم ممّا بني للمفعول وأسند إلى الفاعل فإنّ الحجاب ساتر لا مستور, ويجوز أن يراد مبالغة أنه حجاب من دونه حجاب فهو مستور بغيره. قوله كأن لم يكن شيئاً مذكوراً اقتباس من آية ﴿هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡٔٗا مَّذۡكُورًا﴾ [الدهر:١].
[3] قوله: [وإلى الله المُشتكَى] أي: الشكاية, وتقديم إلى الله للحصر, والشكاية إلى الله لا ينافي الصبر قال تعالى: ﴿إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ﴾ [يوسف:٨٦], وإنّما ينافيه الشكاية إلى الناس. قوله إذا أساء إلخ في اختيار إِذَا في الإساءة وإِنْ في الإحسان إيماء إلى أنّ الأولى مقطوعة من الدهر والثاني مشكوك. قوله ندِم عليه من ساعته أي: ندِم على إحسانه على الفور, وهذا كناية عن عدم ثبات إحسانه.
[4] قوله: [ثمّ ألجأني إلخ] عطف على رماني أو على طرحت, والإلجاء الاضطراب. قوله إلى أن تلفظني إلخ أي: إلى أن أنتقل من أرض إلى أرض. قوله ويجرّني إلخ أي: وإلى أن يدفعني مكان مرفوع إلى مكان منخفض, وهذا مرادف لما قبله, ولا يخفى حسن الجمع بين اللفظ والجرّ والرفع والخفض فإنّه تلازم شعريّ وهو من المحسِّنات البديعيّة.