الفن الثالث في الملائكة: وهي العقول المجردة، وهو يشتمل على أربعة فصول.
فصل في إثبات العقل
وبُرهانه: أنّ الصادر من المبدأ الأوّل إنمّا هو الواحد؛ لأنه بسيط، والبسيط لا يصدر عنه إلا الواحد كما مرّ، وذلك الواحد إمّا أن يكون هيولى أو صورة أو عرضاً أو نفساً أو عقلاً، لا جائز أن يكون هو الهيولى؛ لأنهّا لا تقوم بالفعل بدون الصورة، ولا جائز أن يكون صورة؛ لأنهّا لا تتقدم بالعلية على الهيولى كما مرّ، ولا جائز أن يكون عرضاً؛ لاستحالة وجوده قبل وجود الجوهر، ولا جائز أن يكون نفساً وإلا لكان فاعلاً قبل وجود الجسم، وهو محال؛ إذ النفس هي التي تفعل بواسطة الأجسام، فتعين أن يكون عقلاً، وهو المطلوب.
فصل في إثبات كثرة العقول
وبرهانه أن المؤثر في الأفلاك إما أن يكون عقلاً واحداً أو فلكاً واحداً أو عقولاً متكثرة، لا جائز أن يكون عقلاً واحداً؛ لاستحالة صدور جميع الأفلاك عن عقل واحد؛ لما بينا أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن الفلك لو كان علة لفلك آخر، فإما أن يكون الحاوي علة لوجود المحوي أو على العكس، لا سبيل إلى الثاني؛ لأنه أخس و أصغر، والأخس الأصغر استحال أن يكون سبباً للأشرف الأعظم، ولا جائز أن يكون الحاوي علة لوجود المحوي؛ لأنه لو كان كذلك لكان وجوب وجود المحوي متأخراً عن وجوب وجود الحاوي؛ لأن وجوب وجود المعلول مؤخر عن وجوب وجود العلة، وإذا كان كذلك فعدم المحوي مع وجود الحاوي لايكون ممتنعاً لذاته، وإلا لكان وجوده معه لا متأخراً عنه، وقد فرضناه متأخراً، هذا خلف، وإذا كان عدم المحوي مع وجود الحاوي ممكناً كان وجود الخلاء ممكناً لذاته، هذا خُلف، فظهر أن المؤثر في الأفلاك عقول متكثرة. هداية: الحاوي وسبب المحوي وهو العقل الثاني معاً، مع أن السبب متقدم على المحوي، ولكن الحاوي ليس بمتقدم؛ لأن السبب متقدم بالعلية، وما مع المتقدم بالعلية لا يجب أن يكون متقدماً بالعلية. هداية: الحاوي والمحوي كل واحد منهما ممكن لذاته، ولكن ذلك لا يقتضي الخلاء؛ لأن الخلاء لا يلزم من ذلك، وإنما يلزم من اجتماع وجود الحاوي وعدم المحوي، وذلك غير ممكن.