ومنها: أن لا يتعاطى بيده شغلاً في بيته، والتواضع خلافه. روي أن عمر بن عبدالعزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه قال: أفأنبه الغلام؟ فقال: هي أول نومة نامها، فقام وأَخَذَ البطة وملأ المصباح زيتاً، فقال الضيف: قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين! فقال: ذهبتُ وأنا عُمَرُ ورجعتُ وأنا عُمَرُ ما نقص مني شيء، وخير الناس مَن كان عند الله مُتواضِعاً.
ومنها: أن لا يأخذ متاعه ويحمله إلى بيته وهو خلاف عادة المتواضعين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل وقال علي كرم الله وجهه: لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله. وكان أبو عبيدة ابن الجراح وهو أمير: يحمل سطلاً[1] له من خشب إلى الحمام. وقال ثابت بن أبي مالك: رأيت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك. وعن الأصبغ بن نباتة قال: كأني أنظر إلى عمر رضي الله عنه معلقاً لحماً في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله[2]. وقال بعضهم: رأيت علياًّ رضي الله عنه قد اشترى لحماً بدرهم فحمله في ملحفته فقلت له: أحمل عنك يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل.
ومنها: اللباس إذ يظهر به التكبر والتواضع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اَلْبَذَاذَةُ مِنَ الإِيْمَانِ))[3] فقال هارون: سألت معنا عن البذاذة فقال هو الدون من اللباس.
وقال زيد بن وهب: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم، وعوتب علي كرم الله وجهه في إزار مرقوع فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب. وقال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء في القلب. وقال طاوس إني لأغسل ثوبي هذين فأنكر قلبي ما داما نقيين.
ويروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان قبل أن يستخلف تشترى له الحلة بألف دينار فيقول: ما أَجودَها لولا خشونةٌ فيها! فلمّا استخلف كان يشترى له الثوبَ بخمسة دراهم، فيقول: ما أجودَه لولا لينه! فقيل له: أين لباسُك ومركبك وعطرك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن لي نفساً ذوّاقة توّاقة[4] وإنها لم تَذُق مِن الدنيا طبقةً إلا تَاقَتْ إلى الطبقة التي فوقَها، حتى إذا ذَاقتِ الخلافةَ وهي أرفعُ الطباقِ تَاقتْ إلى ما عند الله عزّوجلّ[5].