فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصِّيت هو الجاه والمنزلة في القلوب وحب الجاه هو منشأ كلِّ فَساد.
فإن قلت: فأيّ شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء فكيف فاتهم فضيلة الخمول؟ فاعلم! أن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلّف من العبد فليس بمذموم، نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء، وهم كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم، وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك.
وقال الله تعالى: ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ﴾ [القصص: ۸۳] جمع بين إرادة الفساد والعُلُوِّ وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعاً فقال عز وجل: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ (١٥) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيۡسَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾ [هود: ١٥،١٦] وهذا أيضاً متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة الدنيا وأكثر زينة من زينتها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حُبُّ الْمَالِ وَالْجَاهِ يُنْبِتَانِ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ)) [1] وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ أُرْسِلاَ فِيْ زَرِيْبَةِ[2] غَنَمٍ بِأَسْرَعَ إِفْسَادًا مِنْ حُبِّ الشَّرَفِ وَالْمَالِ فِي دِيْنِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ)) [3] وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: ((إِنَّمَا هَلاَكُ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الهَوَى وَحُبِّ الثَّنَاءِ)) [4] نسأل الله العفو والعافية بمَنِّه وكرمه.
اعلم! أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا، ومعنى المال: ملك الأعيان المنتفع بها، ومعنى الجاه: ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها، وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس، أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه