عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

الاقتداء بمن هو مراء عند الله وقد روي أنه كان يجتاز[1] الإنسان في سِكَكِ[2] البصرة عند الصبح فيسمع أصوات المصلين بالقرآن من البيوت فصنف بعضهم كتاباً في دقائق الرياء فتركوا ذلك وترك الناس الرغبة فيه فكانوا يقولون: ليت ذلك الكتاب لم يصنف فإظهار المرائي فيه خير كثير لغيره إذا لم يعرف رياؤه ((إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))، و((بأقوام لا خلاق لهم))[3] كما ورد في الأخبار وبعض المرائين ممن يقتدى به منهم. والله تعالى أعلم.

بيان الرخصة في كتمان الذنوب وكراهة إطلاع الناس عليها وكراهة ذمهم له:

اعلم أن الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية كما قال عمر رضي الله عنه لرجل: عليك بعمل العلانية قال: يا أمير المؤمنين وما عمل العلانية؟ قال: ما إذا اطلع عليك لم تستحي منه. وقال أبو مسلم الخولاني: ما عملت عملاً أبالي أن يطلع الناس عليه إلا إتياني أهلي والبول والغائط، إلا أن هذه درجة عظيمة لا ينالها كل واحد ولا يخلو الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه وهو يخفيها ويكره اطلاع الناس عليها لا سيما ما تختلج[4] به الخواطر في الشهوات والأماني، والله مطلع على جميع ذلك فإرادة العبد لإخفائها عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور وليس كذلك بل المحظور أنه يستر ذلك ليرى الناس أنه ورع خائف من الله تعالى مع أنه ليس كذلك فهذا هو ستر المرائي.

وأما الصادق الذي لا يرائي فله ستر المعاصي ويصح قصده فيه، ويصح اغتمامه باطلاع الناس عليه من ثمانية أوجه.

الأول: أن يفرح بستر الله عليه وإذا افتضح اغتم بهتك الله ستره وخاف أن يهتك ستره في القيامة إذ ورد في الخبر: ((أن من ستر الله عليه في الدنيا ذنباً ستره الله عليه في الآخرة))[5] وهذا غم ينشأ من قوة الإيمان.

الثاني: أنه قد علم أن الله تعالى يكره ظهور المعاصي ويحب سترها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنَ هَذِهِ الْقَاذُوْرَاتِ[6] فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ))[7] فهو وإن عصى الله بالذنب فلم


 



[1]      أي يمر. (اتحاف)

[2]      السِكَّةُ الزُقاق والجمع سِكَكٌ. (المصباح المنير)

[3]      صحيح البخاری، كتاب القدر ، باب العمل بالخواتيم، الحديث : ٦٦۰٦،  ٤/٢٧٤.

[4]      أي تَتَحَرَّك وتَضْطَرِب. (تاج العروس)

[5]      صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب ، باب بشارة من ستر الله...الخ ، الحديث : ۲٥۹۰، ص: ۱۳۹۷.

[6]      القاذورات: جمع قاذُورَةٍ، والمراد بها الفعل القبيح والقول السيء التي نهى الله تعالى عنها. (لسان العرب وغيره)

[7]      المؤطا للامام مالك، كتاب الحدود، باب ماجاء فيمن اعترف...الخ ، الحديث :۱٥۸۸،  ٢/٣٣٦.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178