عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

ومنهم من شرب شراباً حلالاً في قَدَح لونه لون الخمر حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط من أعين الناس. وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير كما فعل بعضهم، فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه فدخل حماماً ولبس ثياب غيره وخرج فوقف في الطريق، حتى عرفوه فأخذوه وضربوه، واستردوا منه الثياب، وقالوا: إنه طرَّار[1] وهجروه. وأقوى الطرق في قطع الجاه: الاعتزال عن الناس والهجرة إلى موضع الخمول، فإنّ المعتزل في بيته في البلد الذي هو به مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ له في القلوب بسبب عزلته، فإنه ربما يظن أنه ليس محباً لذلك الجاه وهو مغرور، وإنما سكنت نفسه لأنها قد ظفرت بمقصودها، ولو تغير الناس عما اعتقدوه فيه فذموه أو نسبوه إلى أمر غير لائق به، جزعت نفسه وتألمت، وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة ذلك الغبار عن قلوبهم، وربما يحتاج في إزالة ذلك عن قلوبهم إلى كذب وتلبيس ولا يبالي به، وبه يتبين بعد أنه محب للجاه والمنزلة. ومن أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه، فإن فتنة الجاه أعظم ولا يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس، فإذا أحرز قوته من كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأساً أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال[2]، فلا يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن، كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه في أقصى المشرق لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم، ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة، فمن قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن[3]، ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع. ويستعين على جميع ذلك بالأخبار الواردة في ذم الجاه ومدح الخمول والذل مثل قولهم: المؤمن لا يخلو من ذلة أو قلة أو علة، وينظر في أحوال السلف وإيثارهم للذل على العز ورغبتهم في ثواب الآخرة رضي الله عنهم أجمعين.

بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم:

اعلم أن أكبر الناس إنما هلكوا بخوف مذمة الناس وحب مدحهم، فصار حركاتهم كلّها موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح وخوفاً من الذم، وذلك من المهلكات فيجب معالجته وطريقه ملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم.


 



[1]      الطرار. وهو الذي يقطع النفقات على غفلة من أهلها. (اتحاف)

[2]      أي الأسقاط. (اتحاف)

[3]      أي مقدار. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178