والثاني: أنّ ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها، وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته، وكل من مدحك فقد قطع ظهرك، فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى! وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله.
وأما الثالث: فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم، فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول: اللّهم أهلكه بل ينبغي أن تقول: اللّهم أصلحه، اللّهم تب عليه، اللّهم ارحمه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِى اَللّهُمَّ اهْدِ قَوْمِيْ فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)) [1] لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمّه حمزة يوم أحد. ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمَغفرة فقيل له في ذلك فقال: علمت أني مأجور بسببه وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معاقباً بسببي. ومما يهوّن عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبك. وأصل الدين القناعة، وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه، وما دام الطمع قائماً كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالباً، وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة، ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين، فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جداً.
بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم:
اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح:
الحالة الأولى: أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته، وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب.
الحالة الثانية: أن يمتعض في الباطن[2] على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافأته ويفرح باطنه، ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال.
الحالة الثالثة: وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره المدحة، وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغروراً إن لم يمتحن نفسه بعلاماته، وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالاً للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح، وأن لا يجد في