بيان أخلاق المتواضعين ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبر:
اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ونظره شزراً وإطراقه رأسه وجلوسه متربعاً أو متكئاً وفي أقواله حتى في صوته ونغمته وصيغته في الإيراد، ويظهر في مشيته وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وفي تعاطيه لأفعاله وفي سائر تقلباته في أحواله وأقواله وأعماله. فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض.
فمنها: التكبر بأن يحب قيام الناس له أو بين يديه، وقد قال علي كرم الله وجهه: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد وبين يديه قوم قيام.وقال أنس: لم يكن شخصٌ أَحَبَّ إليهم مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رَأَوه لَم يقوموا له لِمَا يَعلمون مِن كَراهتِه لذلك[1].
ومنها: أن لا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه قال أبو الدرداء: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً ما مشى خلفه. وكان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من عبيده إذ كان لا يتميز عنهم في صورة ظاهرة، ومشى قوم خلف الحسن البصري فمنعهم وقال: ما يبقى هذا من قلب العبد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات يمشي مع بعض الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في غمارهم، إما لتعليم غيره أو لينفي عن نفسه وساوس الشيطان بالكبر والعجب كما أخرج الثوب الجديد في الصلاة وأبدله بالخليع لأحد هذين المعنيين.
ومنها: أن لا يزور غيره وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين وهو ضد التواضع روي أن سفيان الثوري قدم الرملة فبعث إليه إبراهيم بن أدهم: أن تعال فحدثنا، فجاء سفيان فقيل له: يا أبا إسحاق تبعث إليه بمثل هذا فقال: أردت أن أنظر كيف تواضعه.
ومنها: أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه والتواضع خلافه. قال ابن وهب: جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد فمس فخذي فخذه فنحيت نفسي عنه فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه وقال لي: لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة؟ وإني لا أعرف رجلاً منكم شرًّا مني. وقال أنس: كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينزع يده منها حتى تذهب به حيث شاءت.
ومنها: أن يتوقى من مجالسة المرضى والمعلولين ويتحاشى عنهم وهو الكبر. دخل رجل وعليه جدري قد تقشر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ناس من أصحابه يأكلون فما جلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يحبس عن طعامه مجذوماً ولا أبرص ولا مبتلي إلا أقعدهم على مائدته.
[1] وَأَمَّا لَوْ أَحَبَّ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَرَفِ الْعِلْمِ وَإِظْهَارًا لِمَرْتَبَةِ رَوْنَقِهِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ عَلَى إطْلَاقِهِ. (بريقة محمودية)