فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه وهو من أشد المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب[1] هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم.
بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل:
اعلم أن الرياء جلي وخفي فالجلي: هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب وهو أجلاه وأخفى منه قليلاً هو ما لا يحمل على العمل بمجرده إلا أنه يخفف العمل الذي يريد به وجه الله كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان.
وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضاً، ولكنه مع ذلك مستبطن في القلب، ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يمكن أن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يُرَشِّحُ السّرُورَ ولولا التفات القلب إلى الناس لما ظهر سروره عند اطلاع الناس فلقد كان الرياء مستكناً في القلب استكنان النار في الحجر، فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور ثم إذا استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتاً وغذاء للعرق الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية فيتقاضى تقاضياً خفياً أن يتكلف سبباً يطلع عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضاً وإن كان لا يدعو إلى التصريح وقد يخفى فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً وتصريحاً ولكن بالشمائل كإظهار النحول والصفار وخفض الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد.
وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه ومهما لم يكن وجود العبادة