عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته، فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول فإنه المطلوب بهذا مباح في نفسه.

الثالثة: أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح ولكن يظهر عبادته خوفاً من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلاً فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال: إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار، وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار، وتنفس الصعداء وإظهار الحزن، ويقول: ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه، والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك، وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير، وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئاً من ذلك، وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم، وقد لا يصرح بأني صائم ولكن يقول: لي عذر، وهو جمع بين خبيثين فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائياً فيريد أن يقال: إنه ساتر لعبادته ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذراً تصريحاً أو تعريضاً بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم أو يقول: أفطرت تطييباً لقلب فلان ثم قد لا يذكر ذلك متصلاً بشربه كي لا يظن به أنه يعتذر رياء ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضاً مثل أن يقول: إن فلاناً محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألحّ عليّ[1] اليوم ولم أجد بُدًّا من تطييب قلبه ومثل أن يقول: إن أمي ضعيفة القلب مشفقة عليّ تظن أني لو صمت يوماً مرضت فلا تدعني أصوم، فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلا لرسوخ عرق الرياء في الباطن، أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبساً، وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه غيره وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور وسيأتي شرح ذلك وشروطه.


 



[1]      أي أقبل عليّ مواظباً. (لسان العرب)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178