عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

بالنوم غافل عنه فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه! ومثل هذا القلب هو الذي يقوى على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى وأحيا فيه نور العقل والعلم وأماط[1] عنه ظلمة الشهوات.

فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة الشيطان وترصده وألزموها الحذر ثم لم يشتغلوا بذكره بل بذكر الله ودفعوا بالذكر شر العدو، واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر، والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر الله قد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جاريا إليها من جانب آخر فيطول تعبه ولا تجف البئر من الماء القذر، والبصير هو الذي جعل لمجرى الماء القذر سداً وملأها بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسِكر والسد[2] من غير كلفة[3] ومؤنة وزيادة تعب.

بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات:

اعلم أن في الإسرار للأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء، وفي الإظهار فائدة الإقتداء وترغيب الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء قال الحسن: قد علم المسلمون أن السر أحرز العملين ولكن في الإظهار أيضاً فائدة ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية فقال:﴿إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ [البقرة:٢٧١].

والإظهار قسمان :    أحدهما: في نفس العمل.         والآخر: بالتحدث بما عمل.

القسم الأول: إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنِ اتَّبَعَهُ))[4] وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيرها، ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب، نعم الغازي إذا هم بالخروج فاستعد وشد الرحل قبل القوم تحريضا لهم على الحركة فذلك أفضل له لأن الغزو في أصله من أعمال العلانية لا يمكن إسراره فالمبادرة إليه ليست من الإعلان بل هو تحريض مجرد، وكذلك الرجل قد يرفع صوته في الصلاة بالليل لينبه جيرانه وأهله فيقتدي به، فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء.


 



[1]      أي أزال. (اتحاف)

[2]      يقال: سكرت النهر سكراً إذا سددته، والسكر بالكسر ما يسد به النهر. (اتحاف)

[3]      أي مشقة. (اتحاف)

[4]      صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث علی الصدقة ...الخ  ، الحديث :۱۰۱۷، ص: ٥۰۸.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178