عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

أما الوجه المحظور: فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك عنها. مثل العلم، والورع، والنسب، فيظهر لهم أنه عَلَوِيٌّ أو عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة.

وأما أحد المباحين: فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها، كقول يوسف صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه الرب تعالى: ﴿ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ﴾ [يوسف:٥٥] فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظاً عليماً وكان محتاجاً إليه وكان صادقاً فيه.

والثاني: أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه، ومعصية من معاصيه حتى لا يعلم، فلا تزول منزلته به فهذا أيضاً مباح؛ لأن حفظ الستر على القبائح جائز، ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح، وهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به، كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر، ولا يلقي إليه أنه ورع، فإن قوله: إني ورع تلبيس، وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع بل يمنع العلم بالشرب. ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده، فإن ذلك رياء وهو ملبس؛ إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله، وهو مراء بما يفعله فكيف يكون مخلصاً؟ فطلب الجاه بهذا الطريق حرام، وكذا بكل معصية. وذلك يجري مجرى اكتساب المال الحرام من غير فرق. وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره، فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال.

 

بيان السبب في حب المدح والثناء وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها للذم ونفرتها منه:

اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب:

السبب الأول: وهو الأقوى، شعور النفس بالكمال: فإنّا بينّا أن الكمال محبوب وكل محبوب فإدراكه لذيذ. فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت، واهتزت، وتلذذت. والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها. فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جلياً ظاهراً أو يكون مشكوكاً فيه، فإن كان جلياً ظاهراً محسوساً كانت اللذة به أقل، ولكنه لا يخلو عن لذة، كثنائه عليه بأنه طويل القامة، أبيض اللون، فإن هذا نوع كمال، ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته، فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة.

وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك، فاللذة فيه أعظم. كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق فإن الإنسان ربما يكون شاكاً في كمال حسنه، وفي كمال علمه، وكمال ورعه، ويكون مشتاقاً إلى زوال هذا الشك، بأن يصير مستيقناً لكونه عديم النظير في هذه


 




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178