عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

الأمور، إذ تطمئن نفسه إليه، فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال، فتعظم لذاته وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات، خبير بها، لا يجازف في القول إلا عن تحقيق، وذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة[1]، والذكاء، وغزارة الفضل[2]، فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام[3] أو لا يكون بصيراً بذلك الوصف، ضعفت اللذة. وبهذه العلة يبغض الذم أيضاً ويكرهه، لأنه يشعره بنقصان نفسه، والنقصان ضد الكمال المحبوب، فهو ممقوت والشعور به مؤلم، ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به، كما ذكرناه في المدح.

السبب الثاني: أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح، وأنه مريد له، ومعتقد فيه، ومسخر تحت مشيئته، وملك القلوب محبوب، والشعور بحصوله لذيذ، وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته، وينتفع باقتناص قلبه[4] كالملوك والأكابر، ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء، فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير، فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم.

السبب الثالث: أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه، لا سيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله، ويعتد بثنائه، وهذا مختص بثناء يقع على الملأ، فلا جرم كلّما كان الجمع أكثر، والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله، كان المدح ألذ، والذم أشد على النفس.

السبب الرابع: أن المدح يدل على حشمة الممدوح، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع، وإما عن قهر، فإن الحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة. وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به، ولكن كونه مضطراً إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه، فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته، فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد. فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد، فيعظم بها الالتذاذ وقد تفترق فتنقص اللذة بها.


 



[1]      أي بالغلبة. (فيض القدير)

[2]      أي بكثرة الفضل. (تاج العروس)

[3]      الجزف الأخذ بكثرة كلمة فارسية ويقال لمن يرسل كلامه إرسالاً من غير قانون ½جازف في كلامه¼ (المصباح المنير)

[4]      أي بصيد قلبه. (التعاريف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178