فهذه جمل آفات الرياء. فليراقب العبد قلبه ليقف عليها ففي الخبر: ½إن للرياء سبعين باباً¼ وقد عرفت أن بعضه أغمض من بعض حتى إن بعضه مثل دبيب النمل وبعضه أخفى من دبيب النمل وكيف يدرك ما هو أخفى من دبيب النمل إلا بشدة التفقد والمراقبة؟ وليته أدرك بعد بذل المجهود، فكيف يطمع في إدراكه من غير تفقد للقلب وامتحان للنفس وتفتيش عن خدعها؟ نسأل الله تعالى العافية بمنه وكرمه وإحسانه.
بيان ما ينبغي للمريد أن يلزم نفسه قبل العمل وبعده وفيه:
اعلم أن أولى ما يلزم المريد قلبه في سائر أوقاته القناعة بعلم الله في جميع طاعاته، ولا يقنع بعلم الله إلا من لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله، فأما من خاف غيره وارتجاه اشتهى إطلاعه على محاسن أحواله، فإن كان في هذه الرتبة فليلزم قلبه كراهة ذلك من جهة العقل والإيمان لما فيه من خطر التعرض للمقت، وليراقب نفسه عند الطاعات العظيمة الشاقة التي لا يقدر عليها غيره، فإن النفس عند ذلك تكاد تغلي[1] حرصاً على الإفشاء، وتقول: مثل هذا العمل العظيم أو الخوف العظيم أو البكاء العظيم لو عرفه الخلق منك لسجدوا لك! فما في الخلق من يقدر على مثله، فكيف ترضى بإخفائه فيجهل الناس محلك وينكرون قدرك ويحرمون الاقتداء بك؟ ففي مثل هذا الأمر ينبغي أن يثبت قدمه، ويتذكر في مقابلة عظم عمله عظم ملك الآخرة ونعيم الجنة ودوامه أبد الآباد، وعظم غضب الله ومقته على من طلب بطاعته ثواباً من عباده، ويعلم أن إظهاره لغيره محبب إليه وسقوط عند الله وإحباط للعمل العظيم فيقول: وكيف أتبع مثل هذا العمل بحمد الخلق وهم عاجزون لا يقدرون لي على رزق ولا أجل؟ فيلزم ذلك قلبه ولا ينبغي أن ييأس عنه فيقول: إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء فأما المخلطون فليس ذلك من شأنهم، فيترك المجاهدة في الإخلاص لأن المخلط إلى ذلك أحوج من المتقي؛ لأن المتقي إن فسدت نوافله بقيت فرائضه كاملة تامة، والمخلط لا تخلو فرائضه عن النقصان والحاجة إلى الجيران بالنوافل، فإن لم تسلم صار مأخوذاً بالفرائض وهلك به فالمخلط إلى الإخلاص أحوج.
وقد روى تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يُحَاسَبُ الْعَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَإنْ نَقَصَ فَرْضُهُ قِيلَ انْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَإنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَ بِهِ فَرْضُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَطَوُّعٌ أُخِذَ بِطَرَفَيْهِ فَأُلْقِيَ فِي النَّارِ))[2] فيأتي المخلط يوم القيامة وفرضه ناقص وعليه ذنوب كثيرة فاجتهاده في جبر الفرائض وتكفير السيئات ولا يمكن ذلك إلا بخلوص النوافل، وأما المتقي فجهده في زيادة الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة.