فإذن ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه لتصح نوافله، ثم يلزم قلبه ذلك بعد الفراغ حتى لا يظهره ولا يتحدث به، وإذا فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلاً من عمله خائفاً أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه، فيكون شاكاً في قبوله ورده مجوزاً أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها،ويكون هذا الشك والخوف في دام عمله وبعده لا في ابتداء العقد، بل ينبغي أن يكون متيقناً في الابتداء أنه مخلص ما يريد بعمله إلا الله حتى يصح عمله، فإذا شرع ومضت لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من رياء أو عجب أولى به، ولكن يكون رجاءه أغلب من خوفه لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص وشك في أنه هل أفسده برياء؟ فيكون رجاء القبول أغلب وبذلك تعظم لذته في المناجاة والطاعات.
فالإخلاص: يقين، والرياء: شك، [1] وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه والذي يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة العلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط، ورجاء الثواب على عمل المتعلم بعلمه فقط دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه فإن ذلك يحبط الأجر فمهما توقع[2] من المتعلم مساعدة في شغل وخدمة أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكثر باستتباعه أو تردداً منه في حاجة فقد أخذ أجره فلا ثواب له غيره، نعم إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ليكون له مثل أجره ولكن خدمة التلميذ بنفسه فقبل خدمته فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذا كان لا ينتظره ولا يريده منه ولا يستبعده منه لو قطعه، ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلاً ليرفعوه فحلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن أو سمع منه حديثاً خيفة أن يحبط أجره.
وقال شقيق البلخي: أهديت لسفيان الثوري ثوباً فرده عليَّ فقلت له: يا أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده عليَّ، قال: علمت ذاك ولكن أخوك يسمع منّي الحديث فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره. وجاء رجل إلى سفيان ببدرة أو بدرتين وكان أبوه صديقاً لسفيان وكان سفيان يأتيه كثيراً فقال له: يا أبا عبد الله في نفسك من أبي شيء؟ فقال: يرحم الله أباك كان وكان وأثنى عليه فقال: يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار هذا المال إليَّ فأحب أن تأخذ هذه تستعين بها على عيالك قال: فقبل سفيان ذلك قال: فلما خرج قال لولده: يا مبارك ألحقه فرده عليّ، فرجع فقال: أحب أن تأخذ