عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

حجاب وهو في ذلك الموضع بعينه هل كانت نفسه تسخو[1] بالصلاة وهم لا يرونه فإن سخت نفسه فليصل فإن باعثه الحق وإن كان ذلك يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك فإن باعثه الرياء.

وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم، ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى، وقد يتحرك بذلك باعث الدين ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد، بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية ويشتغل بالعبادة، وكذلك قد يبكي جماعة فينظر إليهم فيحضره البكاء خوفاً من الله تعالى لا من الرياء، ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى، ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب، وقد لا يحضره البكاء فيتباكى تارة رياء وتارة مع الصدق؛ إذ يخشى على قلبه قساوة القلب حين يبكون ولا تدمع عينه فيتباكى تكلفاً وذلك محمود. وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف على نفسه القساوة فيتباكى أم لا؟ فإن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم فإنما خوفه من أن يقال: أنه قاسي القلب فينبغي أن يترك التباكي. قال لقمان عليه السلام لابنه: لا ترِ الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك فاجر. وكذلك الصيحة والتنفس والأنين عند القرآن أو الذكر أو بعض مجاري الأحوال تارة تكون من الصدق والحزن والخوف والندم والتأسف، وتارة تكون لمشاهدته حزن غيره وقساوة قلبه، فيتكلف التنفس والأنين ويتحازن وذلك محمود، وقد تقترن به الرغبة فيه لدلالته على أنه كثير الحزن ليعرف بذلك فإن تجردت هذه الداعية فهي الرياء، وإن اقترنت بداعية الحزن فإن أباها ولم يقبلها وكرهها سلم بكاؤه وتباكيه، وإن قبل ذلك وركن إليه بقلبه حبط أجره وضاع سعيه وتعرض لسخط الله تعالى به.

وقد يكون أصل الأنين عن الحزن ولكن يمده ويزيد في رفع الصوت فتلك الزيادة رياء وهو محظور؛ لأنها في حكم الابتداء لمجرد الرياء فقد يهيج من الخوف ما لا يملك العبد معه نفسه ولكن يسبقه خاطر الرياء فيقبله فيدعو إلى زيادة تحزين للصوت أو رفع له أو حفظ الدمعة على الوجه حتى تبصر بعد أن استرسلت لخشية الله، ولكن يحفظ أثرها على الوجه لأجل الرياء. وكذلك قد يسمع الذكر فتضعف قواه من الخوف فيسقط ثم يستحي أن يقال له: إنه سقط من غير زوال عقل وحالة شديدة فيزعق ويتواجد تكلفاً ليرى أنه سقط لكونه مغشياً عليه وقد كان ابتداء السقطة عن صدق وقد يزول عقله فيسقط ولكن يفيق سريعاً فتجزع نفسه أن يقال حالته غير ثابتة، وإنما هي كبرق خاطف


 



[1]      تسخو من السخاوة. (المصباح المنير)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178