رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ﴾ [الأنفال:٦٠] لا يناقض امتثال التوكل مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله ويرى الأسباب وسائط مسخرة كما ذكرناه في التوكل وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم وما قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر[1] علمهم ويظنون أن ما يهجم عليهم من الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد.
ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم: إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب علی قلوبنا من ذكره والحذر منه والترصد له فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا. وقال قوم: إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك مراد الشيطان منا بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين فإنا إن نسيناه ربما عرض من حيث لا نحتسب وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله فالجمع أولى.
وقال العلماء المحققون: غلط الفريقان أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر الله فلا يخفى غلطه وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل ذكره أغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو؟ ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله تعالى فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه فلم يأمرنا بانتظار الشيطان ولا بإدمان ذكره.
وأما الفرقة الثانية : فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله وقد أمر الله الخلق بذكره ونسيان ما عداه إبليس وغيره فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان ويقرر على نفسه عداوته فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر الله ويُكِبّ عليه[2] بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان فإنه إذا اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له وعند التنبه يشتغل بدفعه، والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم[3] عند طلوع الصبح فيلزم نفسه الحذر وينام على أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه لما أسكن في قلبه من الحذر مع أنه