أما السبب الأول: فهو استشعار الكمال بسبب قول المادح فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك وتقول لنفسك: هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا؟ فإن كنت متصفاً بها فهي إما صفة تستحق بها المدح كالعلم والورع وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية، فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي يصير على القرب هشيماً[1] تذروه الرياح[2] وهذا من قلة العقل بل العاقل يقول كما قال المتنبي :
أشد الغم عندي في سرور | تيقن عنه صاحبه انتقالاً |
فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا، وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح بها بل بوجودها والمدح ليس هو سبب وجودها، وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة، وهذا إنما يقتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى[3] وخطر الخاتمة باق ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا، بل الدنيا دار أحزان وغموم لا دار فرح وسرور، ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى لا بمدح المادح، فإن اللذّة في استشعار الكمال، والكمال موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح، والمدح لا يزيدك فضلاً.
وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون، ومثالك مثال من يهزأ به إنسان ويقول: سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه[4]، وما أطيب الروائح التي تفوح منه إذا قضى حاجته. وهو يعلم ما تشتمل عليه أمعاءه[5] من الأقذار والأنتان، ثم يفرح بذلك فكذلك إذا أثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به والله مطلع على خبائث باطنك وغوائل[6] سريرتك وأقذار صفاتك كان ذلك من غاية الجهل.
فإذا المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتك التي هي من فضل الله عليك وإن كذب فينبغي أن يغمك ذلك ولا تفرح به.
[1] أي متحطماً متكسراً. (اتحاف)
[2] أي تطيروه. (اتحاف)
[3] أي القربى. (فتح الباري، باب وأقم الصلاة طرفي النهار...إلخ)
[4] أحشاء جمع الحشا، والحشا: ما في البطن. (القاموس المحيط)
[5] المِعَى: المصران وجمعه أَمْعَاءٌ. (المصباح المنير)
[6] الغيلة بالكسر والغائلة: الفساد والشر، وغائلة العبد إباقه وفجوره ونحو ذلك والجمع: الغوائل. (المصباح المنير)