عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

وكما أن ملك الذهب والفضة يفيد قدرة يتوصل الإنسان بها إلى سائر أغراضه فكذلك ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض، فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة، وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال، ولملك الجاه ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه:

الأول: أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه، فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له، فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال، وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له، فإذاً الجاه آلة ووسيلة إلى المال فمَن مَلَك الجاه فقد ملك المال ومن ملك المال لم يَمْلِك الجاه بكل حال، فلذلك صار الجاه أحب.

الثاني: هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلَمَة، ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن، ويتطرق إليه أخطار كثيرة، وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة[1] لا يقدر عليها السراق، ولا تتناولها أيدي النِّهاب[2] والغصاب، وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا يستغني عن المراقبة والحفظ. وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها، وذو الجاه في أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها، نعم إنما تغصب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف الكمال، وذلك مما يهون دفعه، ولا يتيسر على محاولة فعله.

الثالث: أن ملك القلوب يسري وينمي ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة؛ فإن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها، فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص[3] ذلك القلب أيضاً له؛ ولهذا المعنى يحب الطبع الصيتَ وانتشارَ الذكر لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين. وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة، والجاه أبداً في النماء بنفسه ولا مرد لموقعه والمال واقف. ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر


 



[1]      عتيدة: أى محفوظة. (اتحاف)

[2]      النهب: الغنيمة، والجمع النهاب. والانتهاب: أن يأخذها من شاء. (الصحاح في اللغة)

[3]      الاقتناص أخذ الصيد ويشبه به أخذ كل شيء بسرعة. (التعاريف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178