عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

وبلده، فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه[1] عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه، ويحتاج إلى الاستعانة بهم، ومهما كان ذلك ممكناً ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلاً إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا الخوف.

وأما السبب الثاني: وهو الأقوى، أن الروح أمر رباني، به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه: ﴿وَيَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] و معنى كونه ربانياً أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره، إذ لم يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع، وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء، وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء، وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء، وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة يطول شرحها وتفصيلها، فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع، ومعنى الربوبية: التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال. فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوباً بالطبع للإنسان، والكمال بالتفرد بالوجود فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة، فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية، والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته بل هو قائم به، فلم يكن موجوداً معه لأن المعية توجب المساواة في الرتبة، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال بل الكامل من لا نظير له في رتبته، وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها، فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعاً ولا يكون متبعاً، فإذاً معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال، وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال، ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ﴿أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ﴾ [النازعات: ٢٤] ولكنه ليس يجد له مجالاً وهو كما قال، فإن العبودية قهر على النفس، والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى: ﴿قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥] ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لم تسقط شهوتها للكمال، فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال، وكل موجود فهو محب لذاته ولكمال ذاته، ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من ذاته، وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل


 



[1]      يزعجه: أي يُقْلِقُه. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178