عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

الموجودات فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك، فإن لم يكن منك فإن تكون مستولياً عليه فصار الاستيلاء على الكل محبوباً بالطبع لأنه نوع كمال وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به، إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه، وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخراً لك تردده كيف تشاء، فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة معه، إلا أن الموجودات منقسمة إلى ما لا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته وإلى ما يقبل التغيير، ولكن لا يستولي عليه قدرة الخلق كالأفلاك والكواكب وملكوت السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين وكالجبال والبحار وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها قلوب الناس، فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات.

فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات، وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات، أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والاطلاع على أسرارها، فإن ذلك نوع استيلاء؛ إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم والعالم كالمستولي عليه، فلذلك أحب أن يعرف الله تعالى، والملائكة، والأفلاك، والكواكب، وجميع عجائب السموات، وجميع عجائب البحار والجبال وغيرها؛ لأن ذلك نوع استيلاء عليها، والاستيلاء نوع كمال، وهذا يضاهي اشتياق من عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها كمن يعجز عن وضع الشطرنج[1]، فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به وأنه كيف وضع، وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل[2] أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز والقصور عنه ولكنه يشتاق إلى معرفة كيفيته فهو متألم ببعض العجز متلذذ بكمال العلم إن علمه.

وأما القسم الثاني: وهو الأرضيات التي يقدر الإنسان عليها فإنه يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد وهي قسمان: أجساد وأرواح:

أما الأجساد: فهي الدراهم والدنانير والأمتعة، فيجب أن يكون قادراً عليها يفعل فيها ما شاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع، فإن ذلك قدرة، والقدرة كمال، والكمال من صفات الربوبية، والربوبية محبوبة بالطبع، فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها في ملبسه ومطعمه وفي شهوات


 



[1]      الشطرنج: وهي اللعبة المعروفة فارسي معرب وأصله صدرنك أي مائة حيلة، وواضعها صمصمة بن دامر حكيم من حكماء الهند لملك من ملوكهم. (اتحاف)

[2]      جر الثقيل: وهو علم معروف من الهندسة. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178