أحدها: من حيث كثرة المعلومات وسِعَتِها، فإنه محيط بجميع المعلومات فلذلك كلّما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى.
الثاني: من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به، وكون المعلوم مكشوفاً به كشفاً تاماً، فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه، فلذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى الله تعالى.
الثالث: من حيث بقاء العلم أبد الأباد بحيث لا يتغير ولا يزول فإن علم الله تعالى باق لا يتصور أن يتغير، فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى.
والمعلومات قسمان: متغيرات وأزليات،
أما المتغيرات: فمثالها العلم بكون زيد في الدار، فإنه علم له معلوم، ولكنه يتصور أن يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلاً فيكون نقصاناً لا كمالاً، فكلما اعتقدت اعتقاداً موافقاً وتصور أن ينقلب المعتقد فيه عما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصاً ويعود علمك جهلاً، ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم، كعلمك مثلاً بارتفاع جبل ومساحة أرض وبعدد البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ وسائر ما يذكر في المسالك والممالك، وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تتغير بتغير الأعصار والأمم والعادات، فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق[1] تتغير من حال إلى حال، فليس فيه كمال إلا في الحال ولا يبقى كمالاً في القلب.
القسم الثاني: هو المعلومات الأزلية، وهو جواز الجائزات، ووجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات، فإن هذه معلومات أزلية أبدية؛ إذ لا يستحيل الواجب قط جائزاً، ولا الجائز محالاً، ولا المحال واجباً، فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له، وما يستحيل في صفاته ويجوز في أفعاله. فالعلم بالله تعالى، وبصفاته، وأفعاله، وحكمته في ملكوت السموات والأرض، وترتيب الدنيا والآخرة، وما يتعلق به، هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى، ويبقى كمالاً للنفس بعد الموت، وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا أي تكون هذه المعرفة رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا، كما أن من معه سراج خفي، فإنه يجوز أن يصير ذلك سبباً لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه، فيكمل النور بذلك النور الخفي على سبيل الاستتمام. ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك، فمن ليس
[1] الزِئْبَقُ كالزاووقِ ومنه : التَّزْويق : للتَّزْيينِ والتَّحْسينِ لأنه يُجْعَلُ مَعَ الذَّهَبِ فَيُطْلَى به فَيُدْخَلُ في النارِ فَيَطيرُ الزاوُوقُ ويَبْقَى الذَّهَبُ. (القاموس المحيط)