عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور، فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، بل كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، فإذن لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى، وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها: ما لا فائدة له أصلاً كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما، ومنها: ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى كمعرفة لغة العرب، والتفسير، والفقه، والأخبار، فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن، ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس، ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهداية إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا﴾ [الشمس: ٩] وقال عز وجل: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ [العنكبوت:٦٩] فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى، وإنما الكمال في معرفة الله، ومعرفة صفاته وأفعاله، وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله، فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى، وهذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقاً بأحكام الجاه والرياء، ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال.

وأما القدرة: فليس فيها كمال حقيقي للعبد، بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقية وإنما القدرة الحقيقية لله، وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله كما قررناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات. فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا، نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه، وقوة يده للبطش، ورجله للمشي، وحواسه للإدراك فإن هذه القوى آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم، وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بالمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالاً فقد جهل. فالخلق أكثرهم هالكون في غمرة هذا الجهل، فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة، وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى، وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه، كمال، فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى، ومن ملائكته، وهو العلم والحرية.

أما العلم: فما ذكرناه من معرفة الله تعالى.


 




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178