والعجب أن العاقل الفقير ربما يرى الجاهل الغني أحسن حالاً من نفسه ولو قيل له: هل تؤثر جهله وغناه عوضاً عن عقلك وفقرك؟ لامتنع عنه. فإذن ذلك يدل على أن نعمة الله عليه أكبر فلم يتعجب من ذلك؟ والمرأة الحسناء الفقيرة ترى الحلي والجواهر على الدميمة القبيحة فتتعجب وتقول: كيف يحرم مثل هذا الجمال من الزينة؟ ويخصص مثل ذلك القبح! ولا تدري المغرورة أن الجمال محسوب عليها من رزقها وأنها لو خيرت بين الجمال وبين القبح مع الغنى لآثرت الجمال فإذن نعمة الله عليها أكبر. وقول الحكيم الفقير العاقل بقلبه: يا رب لم حرمتني الدنيا وأعطيتها الجهال؟ كقول من أعطاه الملك فرساً فيقول أيها الملك لم لا تعطيني الغلام وأنا صاحب فرس؟ فيقول: كنت لا تتعجب من هذا لو لم أعطك الفرس فهب أني ما أعطيتك فرساً أصارت نعمتي عليك وسيلة لك وحجة تطلب بها نعمة أخرى؟ فهذه أوهام لا تخلو الجهال عنها ومنشأ جميع ذلك الجهل ويزال ذلك بالعلم المحقق بأن العبد وعمله وأوصافه كل ذلك من عند الله تعالى نعمة ابتدأه بها قبل الاستحقاق وهذا ينفي العجب والإدلال ويورث الخضوع والشكر والخوف من زوال النعمة، ومن عرف هذا لم يتصور أن يعجب بعلمه وعمله إذ يعلم أن ذلك من الله تعالى، ولذلك قال داود عليه السلام: يا رب ما تأتي ليلة إلا وإنسان من آل داود صائم. وفي رواية ما تمر ساعة من ليل أو نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك إما يصلي وإما يصوم وإما يذكرك فأوحى الله تعالى إليه يا داود ومن أين لهم ذلك؟ إن ذلك لم يكن إلا بي ولولا عوني إياك ما قويت وسأكلك إلى نفسك،. قال ابن عباس: إنما أصاب داود ما أصاب من الذنب بعجبه بعمله إذ أضافه إلى آل داود مدلا به حتى وكل إلى نفسه فأذنب ذنباً أورثه الحزن والندم وقال داود: يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: إني ابتليتهم فصبروا فقال: يا رب وأنا إن ابتليتني صبرت فأدل بالعمل قبل وقته فقال الله تعالى: فإني لم أخبرهم بأيّ شيء أبتليهم ولا في أيّ شهر ولا في أيّ يوم وأنا مخبرك في سنتك هذه وشهرك هذا أبتليك غداً بامرأة فاحذر نفسك فوقع فيما وقع فيه. وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم ونسوا فضل الله تعالى عليهم وقالوا: لا نغلب اليوم من قلة وكلوا إلى أنفسهم فقال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥] روى ابن عيينة: أن أيوب عليه السلام قال: إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء وما ورد علىَّ أمر إلا آثرت هواك على هواي، فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت يا أيوب أنى لك ذلك؟ أي من أين لك ذلك؟ قال فأخذ رماداً ووضعه على رأسه وقال: منك يا رب منك يا رب، فرجع من نسيانه إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ أَبَدٗا﴾ [النور: ٢١] وقال