عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة أو تنصب عليهما من بلية سواء، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتاً إلى حظوظ الدنيا إلا أن يصير مستغرقاً بحب الله تعالى مثل السكران الواله، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد بل ينظر إلى الكل بعين واحدة وهي عين الرحمة ويرى الكل عباد الله وأفعالهم أفعالا لله ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته أعني الشيطان فإنه ينازع بالوسوسة فمهما قابل ذلك بكراهته وألزم قلبه هذه الحالة فقد أدى ما كلفه.

وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد فقال: غمه فإنه لا يضرك ما لم تبده وروي عنه، موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يَخْلُوْ مِنْهُنَّ الْمُؤْمِنُ وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ)) [1] فمخرجه من الحسد أن لا يبغي.

والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطبع لزوال نعمة العدو، وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء فإن جميع ما ورد من الأحبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم ثم الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد. فإذن كونه آثما بمجرد حسد القلب من غير فعل هو في محل الاجتهاد، والأظهر ما ذكرناه من حيث ظواهر الآيات والأخبار ومن حيث المعنى، إذ يبعد أن يعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة وقد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال :

أحدها: أن تحب مساءتهم بطبعك وتكره حبك لذلك وميل قلبك إليه بعقلك وتمقت نفسك عليه وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك وهذا معفو عنه قطعا لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه.

الثاني: أن تحب ذلك وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك فهذا هو الحسد المحظور قطعا.

الثالث : وهو بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك ومن غير إنكار منك على قلبك ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاه، وهذا في محل الخلاف والظاهرأنه لا يخلو عن إثم بقدر قوة ذلك الحب وضعفه. والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل.


 



[1]      المعجم الكبير، الحديث  : ۳۲۲۷ ،۳/ ۲۲۸




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178