عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه. ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له بذلك جاه عند العامة. ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون بالأسباب التي ذكرناها فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء.

فإن قلت: فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل؟

فأقول: فيه تفصيل فإن الرياء هو طلب الجاه وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات فإن كان بغير العبادات فهو كطلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه وكما أن كسب قليل من المال وهو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضا محمود وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ﴾ [يوسف: ٥٥] وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه وكما أن كثير المال يلهي ويطغي وينسي ذكر الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد، وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال، وكما أنا لا نقول تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضا تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهمّ إلى كثرة المال، ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها.

وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه فلا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم.

فعلى هذا نقول: تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراآة وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا وقس على هذا كل ما تجمل للناس وتزين لهم، والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يخرج يوماً إلى الصحابة فكان ينظر في حب الماء[1] ويسوي عمامته وشعره فقالت: أو تفعل ذلك يا رسول الله ؟ قال: ((نَعَمْ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنَ الْعَبْدِ أَنْ يَتَزَيَّنَ لإِخْوَانِهِ إِذَا خَرَجَ إِلَيْهِمْ))[2] نعم، هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة لأنه كان مأموراً بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم ولو سقط من


 



[1]      أي الدن الذي فيه الماء. (اتحاف)

[2]      قال العراقی، أخرجه ابن عدی وقال : حديث منكر،.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178