عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

ومثال من يترك العلم لخوفه أن يكون مرائياً كمن سلم إليه مولاه حنطة فيها زؤان[1] وقال: خلصها من الزؤان ونقها منه تنقية بالغة فيترك أصل العمل ويقول: أخاف إن اشتغلت به لم تخلص خلاصاً صافياً نقياً فترك العمل من أجله. وهو ترك الإخلاص مع أصل العمل فلا معنى له .

ومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفاً على الناس أن يقولوا إنه مراء فيعصون الله به فهذا من مكايد الشيطان لأنه أولاً أساء الظن بالمسلمين وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك، ثم إن كان فلا يضره قولهم ويفوته ثواب العبادة. وترك العمل خوفاً من قولهم إنه مراء هو عين الرياء فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم فماله ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنه مخلص؟ وأيّ فرق بين أن يترك العمل خوفاً من أن يقال إنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفا من أن يقال إنه غافل مقصر؟ بل ترك العمل أشد من ذلك.

فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال. ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقول له: الآن يقول الناس إنك تركت العمل ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة. فيضطرك بذلك إلى أن تهرب فإن هربت ودخلت سرباً تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة الناس لتزهدك وهربك منهم، وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه؟ بل لا نجاة منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في الدنيا لتلزم الكراهة والإباء قلبك وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي، وإن نزغ[2] العدو نازغ الطبع فإن ذلك لا ينقطع، وترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك الخيرات.

فما دمت تجد باعثاً دينياً على العمل، فلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء، وألزم قلبك الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين وهو مطلع على قلبك، ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك، بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل، فإن قال لك الشيطان: أنت مراء فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف[3] في قلبك من كراهة الرياء وإبائه، وخوفك منه، وحيائك من الله تعالى.

وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفاً ولم يبق باعث ديني بل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد فمن شرع في العمل لله فلا بد أن يبقى معه أصل قصد الثواب.


 



[1]      وهو حب يخالط البر فيكسبه الرداءة وفيه لغات ضم الزاي مع الهمز وتركه فيكون وزن غراب، وكسر الزاي مع الواو الواحدة زِوانَة ويسمى السليم. (اتحاف)

[2]      أي قلع. (المصباح المنير)

[3]      أي تلاقى. (فيض القدير)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178