فإن قلت: فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة روي أن إبراهيم النخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ، فأطبق المصحف وترك القراءة وقال: لا يرى هذا أنا نقرأ كل ساعة. وقال إبراهيم التيمي: إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم. وقال الحسن: إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة وكان أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة وقد ورد في ذلك آثار كثيرة.
قلنا: هذا يعارضه ما ورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقرب إلى خوف الشهرة من البكاء وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه.
وبالجملة: ترك النوافل جائز، والكلام في الأفضل، والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء فالأفضل أن يتمم العمل ويجتهد في الإخلاص ولا يتركه وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضل لشدة الخوف فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكن أن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغال بمكالمته فرأى أن لا يراه في القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال به حتى يعود إليه بعد ذلك. وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبال الناس عليه وشغلهم إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق فيكون ترك ذلك للمحافظة على عبادات هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء. وأما قول التيمي: إذا أعجبك الكلام فاسكت، يجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام كالفصاحة في الحكايات وغيرها، فإن ذلك يورث العجب وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور فهو عدول عن مباح إلى مباح حذراً من العجب. فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس ولا تعظم فيه الآفات ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ولا يدركون هذه الدقائق، وإنما ذكره تخويفاً للناس من آفة الشهرة وزجراً عن طلبها.
القسم الثاني: ما يتعلق بالخلق وتعظم فيه الآفات والأخطار، وأعظمها الخلافة ثم القضاء[1] ثم التذكير والتدريس والفتوى ثم إنفاق المال.
أما الخلافة والإمارة: فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: