عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده وسلامة دين الجميع أحب عندنا من سلامة دينه وحده، فنجعله فداء للقوم ونقول: لعل هذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ الله يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ))[1].

ثم الواعظ هو الذي يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا بكلامه وبظاهر سيرته. فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار من الكلمات المزخرفة[2] والألفاظ المسجعة المقرونة بالأشعار مما ليس فيه تعظيم لأمر الدين وتخويف للمسلمين بل فيه الترجية والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت، فيجب إخلاء البلاد منهم، فإنهم نواب الدجال وخلفاء الشيطان، وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ جميل الظاهر يبطن في نفسه حب القبول ولا يقصد غيره، وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الوارد في حق علماء السوء ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله. ولهذا قال المسيح عليه السلام: يا علماء السوء تصومون وتصلون وتتصدقون ولا تفعلون ما تأمرون وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون، تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى، وما يغني عنكم أن تنقوا[3] جلودكم وقلوبكم دنسة[4]، بحق أقول لكم: لا تكونوا كالمُنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويبقى فيه النخالة[5]، كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم. يا عبيد الدنيا! كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته؟ بحق أقول لكم: إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم: أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأيّ ناس أخس منكم! لو تعلمون، ويلكم حتى متى تصفون الطريق للمدلجين[6] وتقيمون في محلة المتحيرين[7] كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلاً مهلاً! ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم! كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة، يا عبيد الدنيا! لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار


 



[1]      سنن النسائی الكبری، كتاب السير، باب الاستعانة بالفجار في الحرب، الحديث :۸۸۸٥،  ٥/٢٧٩.

[2]      أي المزينة. (لسان العرب)

[3]      أي تنظفوها وتغسلوها بالماء والأشنان. (اتحاف)

[4]      أي وسخ بالمعاصي الباطنة. (اتحاف)

[5]      أي ما يرمى من الدقيق. (اتحاف)

[6]      أي السارين بالليل. (اتحاف)

[7]      أي الواقفين وقوف المتحير الذي لا يجد للسلوك سبيلا. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178