عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

كرام، توشك الدنيا أن تقلعكم[1] عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم، ثم تكبكم[2] على مناخركم[3]، ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم، ثم يدفعكم العلم من خلفكم، ثم يسلمكم إلى الملك الديان حفاة عراة، فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم.

وقد روى الحارث المحاسبي هذا الحديث في بعض كتبه ثم قال: هؤلاء علماء السوء شياطين الإنس وفتنة على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأذلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم الخاسرون .

فإن قلت: فهذه الآفات ظاهرة ولكن ورد في العلم والوعظ رغائب كثيرة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لأَنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا))[4] وقال صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى وَاتُّبِعَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ وَأَجْرُ مَنِ اتَّبَعَهُ))[5] إلى غير ذلك من فضائل العلم. فينبغي أن يقال للعالم: اشتغل بالعلم واترك مراآة الخلق، كما يقال: لمن خالجه الرياء في الصلاة، لا تترك العمل ولكن أتمم العمل وجاهد نفسك.

فاعلم! أن فضل العلم كبير وخطره عظيم كفضل الخلافة والإمارة ولا نقول لأحد من عباد الله: اترك العلم إذ ليس في نفس العلم آفة وإنما الآفة في إظهاره بالتصدى[6] للوعظ والتدريس ورواية الحديث، ولا نقول له أيضاً اتركه ما دام يجد في نفسه باعثاً دينياً ممزوجاً بباعث الرياء، فأما إذا لم يحركه إلا الرياء فترك الإظهار أنفع له وأسلم، وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها. أما إذا خطر له وساوس الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره فلا يترك الصلاة لأن آفة الرياء في العبادات ضعيفة، وإنما تعظم في الولايات وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم. وبالجملة فالمراتب ثلاث:

الأولى: الولايات: والآفات فيها عظيمة وقد تركها جماعة من السلف خوفا من الآفة.

الثانية: الصوم الصلاة والحج والغزو: وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاءهم ولم يؤثر عنهم الترك لخوف الآفة، وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنى قوة.


 



[1]      أي تزيلكم. (اتحاف)

[2]      أي ترميكم. (اتحاف)

[3]      أي وجوهكم. (اتحاف)

[4]      صحيح البخاری، كتاب المغازی، باب غزوة خيبر، الحديث : ٤۲۱۰،  ٣/٨٥، بلفظ ’’ خير لك من حمرالنعم‘‘.

[5]      صحيح مسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه...الخ ، الحديث :۲٦۷٤، ص:۱٤۳۸.

[6]      أي: بالتعرض. (لسان العرب)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178