عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر، ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر، بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر، لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر بل هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في قلبه اعتداد وهزة[1] وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة هو خلق الكبر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَعُوْذُ بِكَ مِنْ نَفْخَةِ الْكِبْرِيَاءِ))[2] وكذلك قال عمر: أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا للذي استأذنه أن يعظ بعد صلاة الصبح. فكأن الإنسان مهما رأى نفسه بهذه العين وهو الاستعظام كبر وانتفخ وتعزز.

فالكبر: عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات وتسمى أيضاً عزة وتعظماً، ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿إِن فِي صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرٞ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِۚ﴾ [غافر:٥٦] قال: عظيمة لم يبلغوها. ففسر الكبر بتلك العظمة. ثم هذه العزة تقتضي أعمالاً في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبراً فإنه مهما عظم عنده قدره بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدراه[3] وأقصاه عن نفسه وأبعده وترفع عن مجالسته ومؤاكلته، ورأى أن حقه أن يقوم ماثلاً[4] بين يديه إن اشتد كبره، فإن كان أشد من ذلك استنكف[5] عن استخدامه ولم يجعله أهلاً للقيام بين يديه ولا بخدمة عَتَبَتِه[6]، فإن كان دون ذلك فأنف من مساواته وتقدم عليه في مضايق الطرق وارتفع عليه في المحافل وانتظر أن يبدأه بالسلام واستبعد تقصيره في قضاء حوائجه وتعجب منه ،وإن حاج أو ناظر أنف أن يرد عليه وإن وعظ استنكف من القبول، وإن وعظ عنف في النصح، وإن رد عليه شيء من قوله غضب، وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم واستخدمهم، وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالاً لهم واستحقاراً والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة وهي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها فإنها مشهورة.

فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وغائلته هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخلق وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء فضلاً عن عوام الخلق، وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَدْخُلُ


 



[1]      الهَزة بالفتح: حركة وبالكسر: النشاط والارتياح، وهنا بالكسر أي: هِزَّة. (مختار الصحاح)

[2]      سنن أبي داود، كتاب الصلاة ، باب ما يستفتح به الصلاة...الخ ، الحديث: ۷٦٤، ۱/۲۹۷ بتغير.

[3]      أي احتقره. (أساس البلاغة)

[4]      أي انتصب كهيئة الخدم. (اتحاف وغيره)

[5]      أي امتنع. (المصباح المنير)

[6]      العَتَبَة: أُسْكُفَّةُ البابِ. (الصحاح في اللغة)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178