عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم وقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي إن ترفهت[1] في معيشتي أن يقصر بي دونهم فاصبر أياماً يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غداً في الآخرة وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي، قالت عائشة رضي الله عنها: فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله عز وجل. فما نقل من أحواله صلى الله عليه وسلم يجمع جملة أخلاق المتواضعين فمن طلب التواضع فليقتد به ومن رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه وسلم ولم يرض لنفسه بما رضي هو به فما أشد جهله! فلقد كان أعظم خلق الله منصباً في الدنيا والدين فلا عز ولا رفعة إلا في الاقتداء به ولذلك قال عمر رضي الله عنه: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العز في غيره، لما عوتب في بذاذة هيئته عند دخوله الشام. وقال أبو الدرداء: اعلم أن لله عباداً يقال لهم الأبدال خلف من الأنبياء هم أوتاد الأرض فلما انقضت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولا حسن حلية ولكن بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر من غير تجبن وتواضع في غير مذلة وهم قوم اصطفاهم الله واستخلصهم لنفسه وهم أربعون صديقاً أو ثلاثون رجلاً قلوبهم على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه، واعلم يا أخي أنهم لا يلعنون شيئًا ولا يؤذونه ولا يحقرونه ولا يتطاولون عليه ولا يحسدون أحداً ولا يحرصون على الدنيا، هم أطيب الناس خيراً وألينهم عريكة[2] وأسخاهم نفساً علامتهم السخاء وسجيتهم البشاشة وصفتهم السلامة ليسوا اليوم في خشية وغداً في غفلة ولكن مداومين على حالهم الظاهر وهم فيما بينهم وبين ربهم لا تدركهم الرياح العواصف ولا الخيل المجراة، قلوبهم تصعد ارتياحاً إلى الله واشتياقاً إليه وقدماً في استباق الخيرات ﴿أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [المجادلة:٢٢].

قال الراوي: فقلت: يا أبا الدرداء ما سمعت بصفة أشد عليّ من تلك الصفة وكيف لي أن أبلغها؟ فقال: ما بينك وبين أن تكون في أوسعها إلا أن تكون تبغض الدنيا فإنك إذا أبغضت الدنيا أقبلت على حب الآخرة وبقدر حبك للآخرة تزهد في الدنيا وبقدر ذلك تبصر ما ينفعك وإذا علم الله من عبد حسن الطلب أفرغ عليه السداد واكتنفه بالعصمة، واعلم يا ابن أخي أن ذلك في كتاب الله تعالى المنزل: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ﴾ [النحل:١٢٨]. قال يحيى بن كثير: فنظرنا في ذلك فما تلذذ


 



[1]      أي تَوسَّعت. (اتحاف)

[2]      أي طبيعة. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178