عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

حياته إلى الموت وكذلك قال: ﴿مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الدهر:٣،٢] ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جمادًا ميتًا ترابًا أولاً ونطفة ثانياً وأسمعه بعد ما كان أصم، وبصره بعد ما كان فاقداً للبصر، وقواه بعد الضعف، وعلمه بعد الجهل، وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها وأغناه بعد الفقر، وأشبعه بعد الجوع، وكساه بعد العري. وهداه بعد الضلال. فانظر كيف دبره وصوره، وإلى السبيل كيف يسره، وإلى طغيان الإنسان ما أكفره، وإلى جهل الإنسان كيف أظهره فقال: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقۡنَٰهُ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ﴾ [يس:٧٧] ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم:٢٠] فانظر إلى نعمة الله كيف نقله من تلك الذلة والقلة والخسة والقذارة إلى هذه الرفعة والكرامة فصار موجودًا بعد العدم وحيا بعد الموت، وناطقًا بعد البكم، وبصيرًا بعد العمى، وقوياً بعد الضعف، وعالماً بعد الجهل، ومهدياً بعد الضلال، وقادراً بعد العجز، وغنياً بعد الفقر، فكان في ذاته لا شيء، وأيّ شيء أخس من لا شيء؟ وأيّ قلة أقل من العدم المحض؟ ثم صار بالله شيئًا وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد العدم المحض أيضًا ليعرفه خسة ذاته فيعرف به نفسه وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم بها عظمته وجلاله، وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا ولذلك امتن عليه فقال: ﴿أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ (٨) وَلِسَانٗا وَشَفَتَيۡنِ (٩) وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ﴾ [البلد:٨-١٠] وعرف خسته أولاً فقال: ﴿أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ﴾ [القيامة:٣٧،٣٨] ثم ذكر منته عليه فقال: ﴿فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ (٣٨) فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ﴾ [القيامة:٣٨،٣٩] ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده أولاً بالاختراع.

فمن كان هذا بدءه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء؟ وهو على التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضعفاء! ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم، وذلك لدلالة خسة أوله ولا حول ولا قوة إلا بالله. نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى، ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة والآفات المختلفة والطباع المتضادة من المرة والبلغم والريح والدم يهدم البعض من أجزائه البعض شاء أم أبى، رضي أم سخط، فيجوع كرهاً ويعطش كرهاً ويمرض كرهاً ويموت كرهاً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً، يريد أن يعلم الشيء فيجهله ويريد أن يذكر الشيء فينساه ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه نفسه، ويشتهي الشيء وربما يكون


 




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178