أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه؟
السبب الثاني: التكبر بالجمال ودواءه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ولا ينظر إلى باطنه نظر البهائم، ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه الرجيع[1] في أمعائه، والبول في مثانته، والمخاط في أنفه، والبزاق في فيه، والوسخ في أذنيه، والدم في عروقه، والصديد تحت بشرته، والصنان تحت إبطه، يغسل الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين، ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره فضلاً عن أن يمسه أو يشمه، كل ذلك ليعرف قذارته وذله هذا في حال توسطه وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور من النطفة ودم الحيض وأخرج من مجرى الأقذار؛ إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم مفيض دم الحيض ثم خرج من مجرى القذر، قال أنس رحمه الله: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا أنفسنا ويقول: خرج أحدكم من مجرى البول مرتين. وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز: ما هذه مشية من في بطنه خرء إذ رآه يتبختر. وكان ذلك قبل خلافته وهذا أوله ووسطه. ولو ترك نفسه في حياته يوماً لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط.
فإذا نظر أنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن[2] وكلون الأزهار في البوادي، فبينما هو كذلك إذ صار هشيمًا تذروه الرياح، كيف ولو كان جماله باقياً وعن هذه القبائح خالياً لكان يجب أن لا يتكبر به على القبيح؛ إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه، ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه كيف ولا بقاء له بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة أو سبب من الأسباب فكم من وجوه جميلة قد سمجت[3] بهذه الأسباب؟ فمعرفة هذه الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها.
السبب الثالث: التكبر بالقوة والأيدي، ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كل عاجز وأذل من كل ذليل وأنه لو سلبه الذباب شيئًا لم يستنقذه منه وأن بقة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته، وأن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته وأن حمى يوم تحلل من قوته ما لا ينجبر في مدة، فمن لا يطيق شوكة ولا