عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

ولذلك قال كعب الأحبار: إن للعلم طغياناً كطغيان المال. وكذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: العالِم إذا زل زل بزلته عالَم. فيعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين.

أحدهما: أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم، فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((يُؤْتَى بِالْعَالِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيُطِيْفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُوْلُوْنَ مَالَكَ ؟ فَيَقُوْلُ كُنْتُ آمِرٌ بِالْخَيْرِ وَلاَ آتِيْهِ وَأَنْهَى عَنِ الشَّرِّ وَآتِيْهِ))[1] وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب فقال عز وجل: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ﴾ [الجمعة:٥] أراد به علماء اليهود وقال في بَلعم بن باعوراء: ﴿وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا﴾ [الاعراف:١٧٥] حتى بلغ: ﴿فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ﴾ [الاعراف:١٧٦]  قال ابن عباس رضي الله عنهما: أوتي بَلعم كتاباً فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه إليها فمثله بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث أي سواء آتيته الحكمة أو لم أوته لا يدع شهوته.

ويكفي العالم هذا الخطر فأيّ عالم لم يتبع شهوته؟ وأيّ عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه؟ فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره، فهذا بذاك وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فقيراً فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال؟ والعياذ بالله منه.

فهذا الخطر يمنع من التكبر، فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه فكيف يتكبر من هذا حاله؟ فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم وقد كان بعضهم يقول: يا ليتني لم تلدني أمي. ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول: يا ليتني كنت هذه التبنة. ويقول الآخر: ليتني كنت طيراً أوكل. ويقول الآخر: ليتني لم أك شيئاً مذكوراً. كل ذلك خوفاً من خطر العاقبة فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالاً من الطير ومن التراب ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره ورأى نفسه كأنه شر الخلق. ومثاله: مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا؟ فأخبره مخبر أن سيده


 



[1]      صحيح مسلم،كتاب الزهد والرقاق، باب عقوبة من يامر بالمعروف…الخ، الحديث:۲۹۸۹،ص:۱٥۹٥.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178