علم الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة، وأعرفك ذلك بمثال لتعلم أنه ليس من ضرورة الغضب لله أن تتكبر على المغضوب عليه وترى قدرك فوق قدره فأقول:
إذا كان للملك غلام وولد هو قرة عينه وقد وكّل الغلام بالولد ليراقبه وأمره أن يضربه مهما أساء أدبه واشتغل بما لا يليق به ويغضب عليه فإن كان الغلام محباًّ مطيعاً لمولاه فلا يجد بداً أن يغضب مهما رأى ولده قد أساء الأدب وإنما يغضب عليه لمولاه ولأنه أمره به ولأنه يريد التقرب بامتثال أمره إليه ولأنه جرى من ولده ما يكره مولاه فيضرب ولده ويغضب عليه من غير تكبر عليه بل هو متواضع له يرى قدره عند مولاه فوق قدر نفسه لأن الولد أعز لا محالة من الغلام فإذن ليس من ضرورة الغضب التكبر وعدم التواضع، فكذلك يمكنك أن تنظر إلى المبتدع والفاسق وتظن أنه ربما كان قدرهما في الآخرة عند الله أعظم لما سبق لهما من الحسنى في الأزل ولما سبق لك من سوء القضاء في الأزل وأنت غافل عنه ومع ذلك فتغضب بحكم الأمر محبة لمولاك إذ جرى ما يكرهه مع التواضع لمن يجوز أن يكون عنده أقرب منك في الآخرة فهكذا يكون بعض العلماء الأكياس فينضم إليه الخوف والتواضع. وأما المغرور فإنه يتكبر ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لغيره مع جهله بالعاقبة وذلك غاية الغرور. فهذا سبيل التواضع لمن عصى الله أو اعتقد البدعة مع الغضب عليه ومجانبته بحكم الأمر.
السبب السابع: التكبر بالورع والعبادة وذلك أيضاً فتنة عظيمة على العباد وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد، وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان لما عرفه من فضيلة العلم وقد قال تعالى: ﴿هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ﴾ [الزمر:٩] وقال صلى الله عليه وسلم: ((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجَلٍ مِنْ أَصْحَابِيْ))[1] إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم، فإن قال العابد: ذلك لعالم عامل بعلمه وهذا عالم فاجر فيقال له: أما عرفت أن الحسنات يذهبن السيئات وكما أن العلم يمكن أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون وسيلة له وكفارة لذنوبه وكل واحد منهما ممكن وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك وإذا كان هذا الأمر غائباً عنه لم يجز له أن يحتقر عالماً بل يجب عليه التواضع له.
فإن قلت: فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَى رَجَلٍ مِنْ أَصْحَابِيْ))[2].