عنوان الكتاب: منتخب الأبواب من إحياء علوم الدين

وبالجملة فمن جوز أن يكون عند الله شقياًّ وقد سبق القضاء في الأزل بشقوته فماله سبيل إلى أن يتكبر بحال من الأحوال، نعم، إذا غلب عليه الخوف رأى كل أحد خيراً من نفسه وذلك هو الفضيلة كما روي أن عابداً آوى إلى جبل فقيل له في النوم: ائت فلاناً الإسكاف فسله أن يدعو لك فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار ويكتسب فيتصدق ببعضه ويطعم عياله ببعضه فرجع وهو يقول: إن هذا لحسن ولكن ليس هذا كالتفرغ لطاعة الله فأتى في النوم ثانياً فقيل له: ائت فلاناً الإسكاف فقل له: ما هذا الصفار الذي بوجهك؟ فأتاه فسأله فقال له: ما رأيت أحداً من الناس إلا وقع لي أنه سينجو وأهلك أنا، فقال العابد: بهذه.

والذي يدل على فضيلة هذه الخصلة قوله تعالى: ﴿يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ﴾ [المؤمنون:٦٠] أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنۡ خَشۡيَةِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ﴾ [المؤمنون:٥٧] وقال تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِيٓ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِينَ﴾ [الطور:٢٦] وقد وصف الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات على الدءوب[1] بالإشفاق فقال تعالى مخبراً عنهم: ﴿يُسَبِّحُونَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفۡتُرُونَ﴾ [الأنبياء:۲۰]  ﴿وَهُم مِّنۡ خَشۡيَتِهِۦ مُشۡفِقُونَ﴾ [الأنبياء: ۲٨]  فمتى زال الإشفاق والحذر مما سبق به القضاء في الأزل وينكشف عند خاتمة الأجل غلب الأمن من مكر الله وذلك يوجب الكبر وهو سبب الهلاك. فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك، والتواضع دليل الخوف وهو مسعد[2] فإذن ما يفسده العابد بإضمار الكبر واحتقار الخلق والنظر إليهم بعين الاستصغار أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال.

فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب لا غير، إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد تضمر التواضع وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة، فإذا وقعت الواقعة عادت إلى طبعها ونسيت وعدها، فعن هذا لا ينبغي أن يكتفي في المداواة بمجرد المعرفة بل ينبغي أن تكمل بالعمل وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر في النفس.

وبيانه أن يمتحن النفس بخمس امتحانات هي أدلة على استخراج ما في الباطن وإن كانت الامتحانات كثيرة.

الامتحان الأول: أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه وإخراجه. فذلك يدل على أن فيه كبراً دفيناً فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه. أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه


 



[1]      أي على الاستمرار. (اتحاف)

[2]      أي يورث السعادة في الآخرة. (اتحاف)




إنتقل إلى

عدد الصفحات

178