تحقيقه فالأول معرفة. والثاني: حالة تسمى الشهوة والرغبة. والثالث: فعل يسمى العزم وتصميم العقد، وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال: ما لك وللخلق علموا أو لم يعلموا؟ والله عالم بحالك فأيّ فائدة في علم غيره؟ فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد يذكر ما رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء وتعرضه للمقت عند الله في القيامة وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم والشهوة تدعوه إلى القبول والكراهة تدعوه إلى الإباء والنفس تطاوع لا محالة أقواهما وأغلبهما.
فإذاً لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور: المعرفة والكراهة والإباء. وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ولا تحضره المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطوياً[1] عليها، وإنما سبب ذلك امتلاء القلب بخوف الذم وحب الحمد واستيلاء الحرص عليه بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره، فيعزب[2] عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء وشؤم عاقبته إذ لم يبق موضع في القلب خال عن شهوة الحمد أو خوف الذم، وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب، ويعزم على التحلم[3] عند جريان سبب الغضب، ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه فينسى سابقة عزمه ويمتلئ قلبه غيظاً يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه عنه، فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب وتدفع نور المعرفة مثل مرارة الغضب وإليه أشار جابر بقوله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين حتى نودي: يا أصحاب الشجرة! فرجعوا. وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف فنسيت العهد السابق حتى ذكروا، وأكثر الشهوات التي تهجم فجأة[4] هكذا تكون، إذ تنسى معرفة مضرته الداخلة في عقد الإيمان. ومهما نسي المعرفة لم تظهر الكراهة فإن الكراهة ثمرة المعرفة، وقد يتذكر الإنسان فيعلم أن الخاطر الذي خطر له هو خاطر الرياء الذي يعرضه لسخط الله ولكن يستمر عليه لشدة شهوته فيغلب هواه عقله ولا يقدر على ترك لذة الحال، فيسوف بالتوبة[5] أو يتشاغل عن التفكر في ذلك لشدة الشهوة، فكم من عالم يحضره كلام لا يدعوه إلى فعله إلا رياء الخلق وهو يعلم ذلك ولكنه يستمر عليه فتكون الحجة عليه أوكد؟ إذ قبل داعي