ما هو كذلك فهو حادث فالكلام حادث, فافترق الناس إلى فرق أربع, فذهبت الأشاعره والحنابلة إلى القياس الأوّل, فقدحت الأشاعرة في صغرى القياس الثاني, وقالوا: لا نسلّم أنّ الكلام مركّب من الحروف؛ لأنّ كلامه لفي الفواد وإنّما جعل الكلام على الفواد دليلاً, والحنابلة في كبراه وحاصل مذهبهم يرجع إلى مذهب الأشاعرة وهو مختاري ومختار والدي قدس سرّه, وتحقيقه موقوف على تمهيد المتقدمتين: الأولى: أنّ الكلام الحادث له اعتبارات شتّى, ووجودات كثيرة ممتاز بعضها عن بعض وبها يمتاز بعض الأحكام عن بعض, فمن وجوداته وجود خطي ووجود آخر غير ذلك وأظهر أمثلته "ديوان الحافظ" مثلاً, فإنّ له وجودات وجود خطّي ووجود لفظي ووجود به ينسب إلى الحافظ, وبذلك الوجود يقال: إنّه مضى على ترتيبه وتهذيبه خمسمئة سنة مثلاً, والمقدّمة الثانية أنّ الموضوع الواحد الذي يحمل عليه كثير من المحمولات يؤخذ باعتبار كلّ محمول بقيد مناسب له بذلك المقيّد يمتاز عن أن يكون موضوعاً لمحمول آخر غيره, فإن أخذت الموضوع بدون المناسبة فقد لغوت, ألا ترى زيداً مثلاً وأحكام المحمول عليه, فإنّها على ضروب شتّى وأنحاء متفاوته, منها القائم والناطق والجزئي والإنسان والحيوان والموجود فلا يصدق عليه قائم إلاَّ إذا أخذت الموضوع على أنه حيوان محصل بالنطق فقط فكذبت, فإن أخذت الموضوع على أنه مختلط به المحمول لغوت, وإن أخذته على أنه عرى عن القيام أهلتَ, فاعلم أنّ القيام لا يصدق على زيد إلاَّ على وجه من الوجوه, فإذا تمهّد ذلك فتفطن أنّ القرآن له وجودات كثيرة, ولكلّ وجود ثبت له الحكم على حدّة, فباعتبار أنه محفوظ في الصدر يحمل عليه أنه محفوظ في الصدور ويوجد في هذا الحمل بأنه كلام خاصّ قام بحافظة الحافظ وباعتبار أنه مكتوب يحمل على أنه مكتوب في المصاحف, والموضوع في كلّ مِن أحكامه يغاير الآخر منها, فإذا حملنا القديم والأزلي وأمثالهما من الألفاظ عليه لا شكّ أن يلاحظ في هذا الحمل بوجود يصحّ عليه القدم والأزلية, وذلك الوجود هو الوجود الذي يحمل على "ديوان الحافظ" أنه مضى عليه خمس مئة سنة, فعند الأشاعرة موضوع القديم والأزلي هو الكلام النفسي, وعندهم موضوعه ليس إلاَّ هذا الكلام الحادث, فإذا فهمت مذهبهم فاعلم أنّ ما شنّع عليه بعض المتأخّرين هو تشنيع على نفسه بالقصور عن فهم كلامهم, ومثاله كمن كان يضرب رأسه بالجبل لينكسر الجبل وأنه لا يدري أنه لا وبال على الجبل, وإنّما الوبال على رأسه, ما أحسن من