عنوان الكتاب: نفحات رمضان

يَأْكُلُوْنَ بالنَّهَارِ شَيْئًا، فظَنَّ الصَّبِيُّ أَنَّكَ مِنْهُم، وتَعَجَّبَ مِنْ اِشْتِغَالِكَ بأَكْلِ الرُّطَبِ، فَاعْفُ عَنْهُ يا شَيْخُ، فإنَّه لَمْ يَتَكَلَّمْ بهَذَا الْكَلاَمِ إلاَّ مِنَ الْجَهْلِ، فالْتَهَبَتْ نَارٌ في فُؤَادِ مالِكٍ، وعَلِمَ أَنَّه كانَ مِن الْغَيْبِ، فقال: يا رَبَّ الْعَالَمِيْنَ، ما أَكَلْتُ بَعْدُ شَيْئًًا مِنَ الرُّطَبِ وسَمَّيْتَني يَهُوْدِيًّا بلاَ جُرْمٍ ولا ذَنْبٍ، فإنْ أَكَلْتُ مِنْه شَيْئًا كَيْفَ يَكُوْنُ حَالِي؟ بعِزَّتِكَ وكِبْرِيَائِكَ لا آكُلُ مِنَ الرُّطَبِ أَبَدًا وما أَكَلَ[1].

أخي الحبيب:

نُقِلَ أَنَّه مَضَتْ أَعْوَامٌ وسُنُوْنَ وكانَ لا يَأْكُلُ حُلْوًا ولا حامِضًا، وكانَ إذَا أَرَادَ الإفْطَارَ يَشْتَرِي مِنَ الْخَبَّازِ خُبْزًا ويُفْطِرُ علَيْه وكان إدَامُهُ أنّ خُبْزَهُ في بَعْضِ الأَوْقَاتِ كانَ لَبَنًا وحَصَلَ له وَجَعٌ، فَاشْتَهَى لَحْمًا صَبَرَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فاضْطَرَّ في ذلك وَانْتَفَى صَبْرُه وذَهَبَ إلى دُكَّانِ رَوَّاسٍٍ فَاشْتَرَى كُرَاعَيْنَ، وأَمْسَكَهُ في كُمِّه ورَجَعَ والرَّوَّاسُ كان عَارِفًا بحَالِه، فأَرْسَلَ عَقَبَه غُلاَمًا لِيَرَى ماذَا يَفْعَلُ، فجَاءَه الْغُلاَمُ يَبْكِي، وأَخْبَرَ أنَّه جَلَسَ في مَكَانٍ خالٍ، وأَخْرَجَ كُرَاعًا مِن كُمِّه وشَمَّه، وقال: يا نَفْسُ، يَكْفِيْكِ هذا الْقَدْرُ، ثم خَرَجَ، وأَعْطَاهُمَا لِلْفُقَرَاءِ ثم قال: يا جَسَدُ، لا تَظُنَّنَّ أنِّي كَلَّفْتُكَ بهذه الْمَشَقَّةِ والتَّكْلِيْفَاتِ الشَّدِيْدَةِ في الدُّنْيَا بعَدَاوَتِي إيَّاكَ إذ لَيْسَ في الدُّنْيَا شَيْءٌ أَعَزُّ وأَحَبُّ إليَّ مِنْكَ، ولكن أَعْمَلُ مَعَكَ مِثْلَ هذه الأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ وأُحَمِّلُكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ بغَايَةِ الْمَحَبَّةِ مَعَكَ حتّى


 



[1] ذكره الشيخ فريد الدين العطار في "تذكرة الأولياء"، صـ٧٥-٧٦.




إنتقل إلى

عدد الصفحات

445